هذا الشرط مورد وفاق بین الأصحاب. قال فی المستند، بعد الحکم باعتبار هذا الشرط و أنه: لا عبرة برضاعة بعدهما (أی بعد الحولین)، إجماعاً محققاً و محکیاً عن الخلاف و الغنیة، و فی التذکرة و المختلف و القواعد و شرحه و الایضاح و نکت الشهید و المسالک و شرح الصیمرى و غیرها;(1) فقد إدعى الإجماع بنفسه و حکاه من عشرة کتب.
و قال فی الجواهر: فلاخلاف معتد به فی اعتبار کون الرضاع فی حولی المرتضع، فلا عبرة بما بعدها و لو فی الشهر و الشهرین; بل الإجماع بقسمیه علیه.(2)
و تعبیره بعدم وجدانه الخلاف المعتد به، یشعر بوجود خلاف غیر معتد به، و لکن لم نجد مخالفاً فی المسألة بین الأصحاب. و لعله إشارة إلى وجود الخلاف غیر معتد به بین أهل السنة; فقد حکی شیخ الطائفة فی الخلاف، ذهاب الجمهور إلى عدم نشر الحرمة إذا لم تکن المولود صغیراً، و حکاه عن أبی حنیفة و مالک و الشافعی و غیرهم، و لکن حکی عن عائشة و أهل الظاهر، نشر الحرمة فی الکبیر أیضاً!.(3)
و على کل حال یدل على اعتبار هذا الشرط، أولا، أنّه موافق لأصالة الحلیّة فی ما بعد الحولین; اللّهم إلاّ أن یقال باستصحاب الحرمة فیما قبل الحولین، و لکنه استصحاب تعلیقى لم یثبت اعتباره کما ذکرنا فی محله.
توضیح ذلک، أنّ الموضوع فی الاستصحابات التعلیقیة، فی الواقع مرکب من جزئین (أحدهما قید، و الآخر مقید)، ففی المثال المعروف، إذا قلنا بأنّ العصیر العنبی یحرم عند الغلیان (کما هو الحق); فهل العصیر الزبیبی أیضاً کذلک. و هذا من الاستصحاب التعلیقى، فانّ الحرام المتیقن هو العصیر العنبی إذا غلى; و هذا الأمر التعلیقی أمر ذهنی اعتباری، لیس فی الخارج حتى یستصحب. و کذلک فی المقام، فانّ موضوع الحرمة هو شرب اللبن; و بعبارة اُخرى، اللبن الموجود فی الخارج، یحرم إذا شربه الصبی فی الحولین، فهل یحرم إذا شربه بعد الحولین، فلیس هنا أمر محقق یقینی شک فیه، فتدبّر جیداً.
و ثانیا، قوله تعالى: (وَ الْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کَامِلَیْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ یُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...).(4)
بان یقال الرضاع، بحکم الشرع یتمّ فی الحولین الکاملین، و بعدهما لا یعد رضاعاً، و کذلک قوله تعالى: (... وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...).(5)
و إستدل بهما فی المسالک و غیره، و بعضهم استدل بهما للسمألة الآتیة، أعنىّ کون الرضاع فی حولین من ولادة الاُم.
و الانصاف إمکان الاستدلال بهما، لا سیما بالآیة الاولى (لأنّ التمسک بالثانیة لا یخلو من إشکال) للمسألتین، لأنّ الرّضاع إذا تمّ بحکم الشرع بعد الحولین، فلا یکون المرتضع مرتضعاً بعد ذلک، و لا الاُم مرضعة بعدهما.
اللّهم إلاّ أن یقال إن الآیة لیست بصدد البیان من هذه الجهات، و فیه تأمل; و سیأتی الاستدلال بالآیة فی بعض الروایات.
و یدل علیه أیضاً طوائف من الروایات:
الطائفة الاولى: ما دل على أنّه لا رضاع بعد فطام، بناء على أنّ المراد منه جعل حد الفطام ما ورد فی الایة الشریفة من تمام الحولین; و هی روایات، منها:
1- ما رواه منصور بن حازم، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): لا رضاع بعد فطام، و لا وصال فی صیام، و لا یتمّ بعد احتلام; الخ.
و فی آخر الحدیث مانصّه: فمعنى قوله لا رضاع بعد فطام، أنّ الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه، لا یحرم ذلک الرضاع التناکح.(6)
و سند الروایة لا یخلو عن ضعف، فانّ روایها و هو منصور بن حازم، و إن کان من الاجلاء الذین رووا عن الصادق(علیه السلام)، و الکاظم(علیه السلام)، و لکن وجود منصور بن یونس یوجب المناقشة فیها، فانّ النجاشی الذی هو شیخ علماء الرجال و إن کان وثّقه، و لکن روى الکشی روایة تدل على ضعفه، و هو أنّ موسى بن جعفر(علیه السلام) أخبره بأن ولده علی(علیه السلام)وصیه من بعده و أراه ولده عند تصریحه بهذا القول; و لکن أنکره بعد ذلک، (و وقف على موسى بن جعفر(علیه السلام))، لأموال کانت عنده; و لعله لذلک صرّح العلاّمة فی الخلاصة، بأنّه یتوقف فی روایته.
2- ما رواه الحلبی عن ابی عبدالله(علیه السلام): لا رضاع بعد فطام.(7) و سند الروایة صحیح.
3- ما عن الصادق(علیه السلام)، عن آبائه(علیهم السلام)، فی وصیة النبی(صلى الله علیه وآله)لعلی(علیه السلام): یا على، لا رضاع بعد فطام، ولا یتمّ بعد احتلام.(8) و هو ضعیف، لجهالة أنس بن محمد.
4- ما رواه المفید مرسلا فی المقنعة، قال: قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): لا رضاع بعد فطام، ولایتمّ بعد احتلام.(9) و حال سنده معلوم; فلا یبقى سند صحیح إلاّ للروایة الثانیة، و کفى بها سنداً للمطلوب، مضافاً إلى تضافر الأحادیث، و قد عرفت أنّه من أسباب الحجیة.
و أمّا مفاد هذه الروایات و ظاهرها، أنّ الأمر یدور مدار الفطام الفعلی، سواء کان قبل الحولین أو بعدهما. اللّهم إلاّ أن یقال إن المراد هو زمن الفطام، کما صرّح به القران الکریم و هو الحولین; و لکن الانصاف أنّ حملها على الفطام بالقوة لا بالفعل، مخالف للظاهر لو کان الدلیل منحصراً فیها.
الطائفة الثانی: عدم اعتبار الحولین فی ولد المرتضعة:
ما دل على اعتبار الحولین فقط، و هو الروایة الثامنة و العاشرة من هذا الباب (الباب 5 من أبواب الرضاع).
1- ما عن زرارة، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن الرضاع، قال: لایحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعا من ثدی واحد حولین کاملین.
2- ما عن الحلبی، عن أبى عبدالله(علیه السلام) قال: لا یحرم من الرضاع إلاّ ما کان حولین کاملین.
و الأول منهما ضعیف بالحسن بن حذیفة بن منصور، فانّه مجهول أو ضعیف; و لکن لا یبعد اعتبار الثانی. هذا، و لکن عمدة الإشکال فیهما من ناحیة الدلالة، فانّ ظاهرهما اشتراط الرضاع فی جمیع الحولین، و لم یقل به أحد من أصحابنا فیما نعلم; و لا من فقهاء العامة.
و قد حمله الشیخ و غیره(قدس الله أسرارهم)، على أن المراد لابدّ من کون الرضاع فی الحولین و حینئذ یمکن الاستدلال بهما لما هو المطلوب.
الطائفة الثالثة: ما دل على تفسیر الفطام بالحولین; فیکون شاهداً للجمع بین الأولیین; و هی روایات کثیرة، منها:
1- ما عن الفضل بن عبدالملک، عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: الرضاع قبل الحولین، قبل أن یفطم.(10)
و تضافر هذه الروایات یغنى عن ملاحظة اسنادها واحداً بعد واحد; و لکن دلالتها فرع کون قوله: قبل أن یفطم; تفسیراً لقوله: قبل الحولین; و لو کان کل واحد قیداً مستقلا، سقط عن الدلالة.
2- عن حماد بن عثمان، قال: سمعت أباعبدالله(علیه السلام)یقول: لا رضاع بعد فطام. قلت: و ما الفطام؟ قال: الحولین الذی قال اللّه عزّوجلّ.(11).
و هذا صریح فی تفسیر الفطام بالحولین.
3- ما ورد من أنّه سال ابن فضال ابن بکیر فی المسجد، فقال: ما تقولون فی أرضعت غلاماً سنتین ثم، أرضعت صبیة لها أقل من سنتین حتى تمت السنتان، أیفسد ذلک بینهما؟ قال: لا یفسد ذلک بینهما، لأنّه رضاع بعد فطام. و إنّما قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): لا رضاع بعد فطأم. أی أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجاریة، فقد خرج من حدّ اللبن، و لا یفسد بینه و بین من شرب لبنه. قال: و أصحابنا یقولون أنّه لا یفسد إلاّ أن یکون الصبی و الصبیة یشربان شربة شربة.(12)
و الاستدلال بالحدیث، باعتبار قوله: إنّما قال رسول الله(صلى الله علیه وآله) لا رضاع بعد فطام; و تفسیره بالحولین، و تفسیر ابن بکیر بحولی ولد المراة، لا اعتبار به; لدلالة غیره على خلافه، مضافاً إلى مخالفته لفتوى الأصحاب، سیأتی إن شاءالله.
4- ما رواه محمد بن علی بن الحسین، مرسلا قال: قال النبی(صلى الله علیه وآله): لا رضاع بعد فطام. و معناه أنّه إذا رضع حولین کاملین، ثم شرب من لبن إمرأة اخرى ما شرب، لم یحرم الرضاع، لأنّه رضاع بعد فطام.(13)
الطائفة الرابعه: ما دل على أنّ رضاع الکبیر و الکبیرة، لا یوجب نشر الحرمة. وهو روایتان:
1- ما رواه محمد بن قیس، قال: سألته عن إمرأة حلبت من لبنها، فاسقت زوجها لتحرم علیه. قال: أمسکها و أوجع ظهرها.(14)
2- ما رواه الحلبی، فی الصحیح، عن أبی عبدالله(علیه السلام)قال: جاء رجل إلى أمیرالمؤمنین(علیه السلام)، فقال: یا أمیرالمؤمنین، إن امرأتى حلبت من لبنها فی مکوک، فاسقته جاریتی. فقال: أوجع امرأتک و علیک بجاریتک.(15)
و الجمع بین هذه الطوائف الأربع، ظاهر بعد حمل المطلق على المقید، و تفسیر بعضها ببعض; و حاصلها عدم نشر الحرمة بعد حولی المرتضع.
و لکن هناک روایة واحدة معارضة لها، و هی ما رواه داود بن الحصین، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: الرضاع بعد الحولین قبل أن یفطم، محرم.(16) و فی کثیر من النسخ یحرّم; بل محرّم; و المعنى واحد.
و مقتضى هذه الروایة، ان المدار على الفطام و لو کان بعد الحولین، و لکن اعراض الأصحاب عنها، و موافقتها لمذهب العامة و مخالفتها للروایات للمشهورة بین الأصحاب روایة و فتوى، یسقطها عن الاعتبار کما لا یخفى.
الفرع الثانى، فالمشهور هو ما اختاره الماتن (قدس سره الشریف) من عدم اعتبار الحولین فی ولد المرضعة; فلو شرب منه بعدهما و قبل کمال حولی المرتضع، نشرت الحرمة.
قال النراقی(قدس سره) فی المستند: و الحق عدم اعتبار الحولین فی ولد المرضعة، فینشر الحرمة لو وقع الرضاع بعد حولیه، إذا کان قبل حولی المرتضع; وفاقاً للأکثر، بل إدعى بعضهم علیه الإجماع; لعموم أدلة نشر الحرمة بالرضاع، و للاستصحاب. خلافاً للمحکی عن الحلبی و ابنی حمزة و زهرة، بل عن الأخیر الإجماع علیه!.(17)
و یظهر من بعض کلمات الجواهر، المیل إلیه.(18)
و استدل لقول المشهور، أولا بالعمومات، مثل قوله تعالى: (و اُمهاتکم اللاتی أرضعنکم...) و قوله(صلى الله علیه وآله): یحرم من الرضاع ما یحرم من القرابة.
و ثانیاً بالاستصحاب، فان الرضاع من المرأة قبل الحولین من ولادة ولدها، کان سبباً للتحریم، و الآن کذلک.
و فیه أولا، أنّه استصحاب تعلیقى. و ثانیاً، أنّه استصحاب حکمى; و لا شیء منهما حجة على المختار.
فالعمدة هی العمومات لو کانت فی مقام بیان هذه الجهات.
و استدل للقول الآخر الشاذ، باُمور:
1- أصالة الاباحة.
2- ظهور قوله(علیه السلام): لا رضاع بعد فطام - بناء على تفسیره بالحولین - فأنه یشمل ولد المرضعة و المرتضع.
3- ما روى عن ابن بکیر، من تفسیر قوله: لا رضاع بعد فطام; بولد المرضعة. و قد مر روایته.(19)
و لکن الأول، مدفوع بعمومات الحرمة.
و الثانى، بأنّه ظاهر فی المرتضع، لظهور کون الفاعل فی الفعلین شخصاً واحداً، فالمرتضع هو المفطم و المفطم هو المرتضع.
و الثالث، بأنّه اجتهاد غیر صواب من ابن بکیر و لا یهمنّا.
و یظهر من الجواهر، امکان تأیید هذا القول ببعض المؤیدات، مثل أنّه: لو نزل کلام الأصحاب على إرادة حولى المرتضع خاصة، یکون لاحدّ عندهم لمدّة الرضاع بالنسبة إلى المرضعة، فانّه یبقى رضاعها مؤثراً و لو سنین متعددة، و هو مع إشکاله فی نفسه لکونه حینئذ کالدّر، مناف لعادتهم من عدم إهمال مثل ذلک، خصوصاً بعد أن تعرض له العامة.(20)
و فیه، أنّه إذا صدق عنوان الدرّ أو مثل ذلک لطول الزمان، خرج عن عنوان لبن الفحل والولادة، و کان خارجاً عن محل الکلام; مضافاً إلى أنّ بقائه سنین متعددة فردٌ شاذ نادر خارج عن الاطلاقات، و أما الأصحاب، فقد عرفت أنّهم تعرضوا له إجمالا، و هو عدم تحدیده بشیء عدا صدق لبن الفحل و الولادة.