و من هنا یعلم عدم جواز الاکتفاء بالکتابة، و إن جاز فی غیر النکاح. توضیح ذلک یتم ببیان اُمور:
1- أنّ العقود کانت فی قدیم الأیام بالألفاظ، و کانت تکتب لحفظ نتائجها و عدم نسیانها أو إنکارها من أحد الطرفین، ثم صار الإنشاء الکتبی قائماً مقام الإنشاء اللفظى. و لکن الیوم نرى أنّ العقلاء لایعتقدون فی المسائل المهمّة بالإنشاء اللفظی، بل یرون من الواجب الاعتماد على توقیع المکتوبات و امضائها، و جمیع الألفاظ التی یذکرونها مقدمة و من قبیل المقاولة. و الاعتبار فی المعاملات الخطیرة و المعاهدات الدولیة بالکتابة و التوقیع علیها فقط.
و هذا یدل على أنّ الإنشاء الکتبی لایقصر شیئاً من الإنشاء اللفظی، بل یتقدم علیها فی المسائل و العقود المهمّة.
2- من الواضح أنّ بناء العقلاء هو الأصل فی أبواب المعاملات، فکلّما صدق علیه العقد، دخل تحت عموم، أوفوا بالعقود، حتى أنّ العقود المستحدثة، کعقد التأمین (بیمه) و شبهها داخلة فیها ما لم یمنع منه مانع.
فأیّ مانع من قبول صحة جمیع العقود إذا انشئت بالکتابة و التوقیع علیها.
3- قد أفتى جماعة من الأصحاب (رضوان الله تعالى علیهم) بجواز الاکتفاء بالکتابة فی أبواب الطلاق و الوصیّة و الوکالة. و قد ورد التصریح فی بعض روایات الوصیّة، أنّه سئل عن أبی الحسن(علیه السلام) أنّ رجلاً کتب کتاباً بخطّه، و لم یقل لورثته هذه وصیتى، و لم یقل انى أوصیت... هل یجب على ورثته القیام بما فی الکتاب بخطه... فأمر الإمام(علیه السلام) بانفاذ جمیع ما فی الکتاب. (فراجع الوسائل 13/437، الحدیث 2، الباب 48، من أبواب أحکام الوصایا).
و استدل بها جماعة لجواز إنشاء الوصیة بالکتابة; و استدل بها فی العروة الوثقى أیضاً.
و قد ورد التصریح أیضاً فی باب طلاق الغائب، أنّه یجوز طلاقه بالکتابة(1) و لایزال الناس یکتبون وصایاهم و ینشئونها بالکتاب، سواء فی ذلک علماء الدین و الرجال السیاسیون و غیرهم من آحاد الناس.
و یظهر من کلماتهم، أنّ مخالفة جماعة من الأعاظم لذلک، بسبب توهّم عدم صراحة الکتابة فی مفادها، فالمانع عندهم من هذه الناحیة، و الحال أنّه یمکن أن تکون الکتابة صریحة فی ذلک، بل و اصرح من الالفاظ. و للبحث فی جمیع ذلک مقام آخر.(2)
4- هذا، و المعروف استثناء النکاح و الطلاق من ذلک، و قد صرح به جماعة من الأصحاب. و لا دلیل علیه إلاّ الإجماع الذی عرفته بالنسبة إلى النکاح، مضافاً إلى أنّ أمر النکاح یختلف مع سائر المعاملات، و قد صرح بعضهم بأن فیه شائبة العبادة. و قد ذکرنا فی محله أنّ المراد منه کونه أمراً توقیفیاً یحتاج ورود تشریعه من الشارع المقدس، و ذلک بسبب کثرة التقییدات الواردة فیهما من ناحیة الشرع المقدس، بحیث صار کالعبادات التوقیفیة.