الآیة الاُولى تشیر إلى بعض المنافقین حیث تقول (ومن الناس من یعجبک قوله فی الحیاة الدنیا ویشهد الله على ما فی قلبه وهو ألدّ الخصام).
(ألد) تأتی بمعنى ذو العداوة الشدیدة، وأصلها من (لدید) التی یراد بها طرفی الرقبة وکنایة عن الشخص الّذی یغلب الأعداء من کلّ جانب، و(خصام) لها معنىً مصدری وهو الخصومة والعداوة.
ثمّ تضیف الآیة التالیة بعض العلامات الباطنیّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهی: (وإذا تولّى سعى فی الأرض لیفسد فیها ویهلک الحرث والنسل والله لا یحب الفساد).
أجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى یفضح هؤلاء ویکشف سریرتهم، لأنّ هؤلاء لو کانوا صادقین فی إیمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا فی الأرض مطلقاً ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلاّ أنّهم فی الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشیّة.
واحتمل کثیر من المفسّرین أنّ المراد بقوله (إذا تولّى) أی إذا حکم، لأنّ التولّی من الولایة بمعنى الحکومة، فیکون معنى الولایة حینئذ أنّ المنافقین إذا حکموا فی الأرض أهلکوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بین عباد الله، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلک الماشیة وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر(1).
(حرث) بمعنى الزّراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتُطلق أیضاً على أولاد الإنسان وغیر الإنسان، فعلى هذا یکون إهلاک الحرث والنسل بمعنى إتلاف کلّ الموجودات الحیّة أعمّ من الأحیاء النباتیّة والحیوانیّة والإنسانیّة.
وذُکر لمعنى الحرث والنسل تفاسیر اُخرى منها: أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرینة الآیة الشریفة (نساؤکم حرث لکم)(2) والمراد بالنسل هم الأولاد، أو یکون المراد من الحرث هنا الدین والعقیدة والنسل الناس (وهذا التفسیر هو الوارد فی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق(علیه السلام) المذکور فی مجمع البیان).(3)
وعلى کلّ حال فإنّ التعبیر (یهلک الحرث والنسل) کلام مختصر وجامع لکلّ المصادیق حیث یشمل الإفساد والتخریب بالنسبة للأموال والنفوس فی المجتمع البشری.
والآیة الاُخرى تُضیف (وإذا قیل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم)(4) فتشتعل فی قلبه نیران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصیة والإثم.
فمثل هذا الشخص لا یستمع إلى نصیحة النّاصحین ولایهتم للإنذارات الإلهیّة، بل یستمر على عناده وإرتکابه للآثام والمنکرات مغروراً، فلا یکون جزاءه إلاّ النار، ولذلک یقول فی نهایة الآیة (فحسبه جهنّم ولبئس المهاد).
وفی الحقیقة أنّ هذه هی أحد الصّفات القبیحة والذّمیمة للمنافقین حیث إنّهم لا یستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب، وهذه الصفات الذّمیمة تبلغ بصاحبه إلى أعلى درجات الإثم، فمن البدیهی أنّ مثل هذه الأخشاب الیابسة المنحرفة لا تستقیم إلاّ بنار جهنّم.
وذهب بعض المفسّرین إلى أنّ الله عزّوجلّ وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات فی الآیات المذکورة آنفاً، الاُولى: أنّ کلامهم یخدع الإنسان، الثانیة: أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة، الثالثة: أنّهم ألدّ الأعداء، الرّابعة: أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا یرحمون أحداً من الإنسان والحیوان والزرع، الخامسة: أنّهم وبسبب الغرور والتکبّر لا یقبلون أیّة نصیحة.