وهنا نصل إلى مقطع جدید من حیاة بنی إسرائیل، یرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآیة الاُولى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القریة ) والقریة کل مکان یعیش فیه جمع من النّاس، ویشمل ذلک المدن الکبیرة والصغیرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقریة هنا بیت المقدس.
ثم تقول الآیة: (فکلوا منها حیث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجَّداً وقولوا حطَّةٌ ) أی حطّ عنا خطایانا، (نغفر لکم خطایاکم وسنزید المحسنین ).
کلمة «حطّة» فی اللغة، تأتی بمعنى التناثر والمراد منها فی هذه الآیة الشریفة، إلهنا نطلب منک أن تحطّ ذنوبنا وأوزارنا.
أمرهم الله سبحانه أن یردّدوا من أعماق قلوبهم عبارة الاستغفار المذکورة، ویدخلوا الباب، ویبدو أنّه من أبواب بیت المقدس، (1) وقد یکون هذا سبب تسمیة أحد أبواب بیت المقدس «باب الحطة». (2)
والآیة تنتهی بعبارة (وسنزید المحسنین ) أی إنّ المحسنین سینالون المزید من الأجر آضافة إلى غفران الخطایا.
والقرآن یحدثنا عن عناد مجموعة من بنی إسرائیل حتى فی ترتیل عبارة الاستغفار، فهؤلاء لم یرددوا العبارة بل بدّلوها بعبارة اُخرى فیها معنى السخریة والاستهزاء، والقرآن یقول عن هؤلاء المعاندین: (فبدَّل الَّذین ظلموا قولا غیر الَّذی قیل لهم ) وکانت نتیجة هذا العناد ما یحدثنا عنه کتاب الله حیث یقول: (فأنزلنا على الَّذین ظلموا رجزاً من السَّماء بما کانوا یفسقون ).
و«الرجز» أصله الاضطراب ـ کما یقول الراغب فی مفرداته ـ ومنه قیل رجز البعیر إذا اضطرب مشیه لضعفه.
ویقول «الطبرسی» فی «مجمع البیان»: إنّ الرجز یعنی العذاب عند أهل الحجاز، ویروی عن الرّسول (صلى الله علیه وآله) قوله بشأن مرض الطاعون: «إنَّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعضُ الاُْمَمِ قَبْلَکُمْ» (3) (4) .
ومن هنا یتضح سبب تفسیر «الرجز» فی بعض الروایات أنّه نوع من الطاعون فشا بسرعة بین بنی إسرائیل وأهلک جمعاً منهم. (5)
قد یقال إن الطاعون لا ینزل من السماء، لکن هذا التعبیر قد یشیر إلى حقیقة انتشار هذا المرض عن طریق الهواء الملوّث بمیکروب الطاعون الذی هبّ بأمر الله آنذاک فی بیئة بنی إسرائیل.
یلفت النظر أن من عوارض الطاعون اضطراباً فی المشی والکلام، وهذا یتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً.
ومن الملفت للنظر أیضاً أنّ القرآن یؤکّد أنّ هذا العذاب نزل (على الَّذین ظلموا ) فقط، ولم یشمل جمیع بنی إسرائیل.
ثم تذکر الآیة تأکیداً آخر على سبب نزول العذاب على هذه المجموعة من بنی إسرائیل بعبارة: (بما کانوا یفسقون ).
والآیة الکریمة بعد ذلک تبین بشکل غیر مباشر سنة من سنن الله تعالى، هی أنّ الذنب حینما یتعمق فی المجتمع ویصبح عادة اجتماعیة، عند ذاک یقترب احتمال نزول العذاب الإلهی.