المتقون ـ إضافة إلى إرتباطهم الدائم بالخالق ـ لهم إرتباط وثیق ومستمر بالمخلوقین، ومن هنا کانت الصفة الثالثة التی یبیّنها لهم القرآن أنّهم (وممّا رزقناهم ینفقون ).
یلاحظ أنّ القرآن لا یقول: ومن أموالهم ینفقون، بل یقول: (وممّا رزقناهم ینفقون )، وبذلک وسّع نطاق الإنفاق لیشمل المواهب المادیة والمعنویة.
فالمتقون لا ینفقون أموالهم فسحب، بل ینفقون من علمهم ومواهبهم العقلیة وطاقاتهم الجسمیّة ومکانتهم الاجتماعیة، وبعبارة اُخرى ینفقون من جمیع إمکاناتهم لمن له حاجة إلى ذلک دون توقّع الجزاء منه.
الملاحظة الاُخرى: إنّ الإنفاق قانون عام فی عالم الخلیقة، وخاصّة فی الترکیب العضوی لکل موجود حی. قلب الإنسان لا یعمل لنفسه فقط، بل ینفق ما عنده لجمیع خلایا البدن، الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائماً من ثمار عملها، والحیاة الجماعیة ـ أساساً ـ لا مفهوم لها دونما إنفاق (1) .
الإرتباط بالنّاس فی الحقیقة حصیلة الإرتباط بالله، فالإنسان المرتبط بالله یؤمن أنّ کل ما لدیه من نِعَم إنّما هی مواهب إلهیّة مودعة لدیه لفترة زمنیّة معینة، ومن هنا فلا یزعجه الإنفاق بل یسره ویفرحه، لأنّه بالإنفاق قسّم مال الله بین عباد الله، وبقیت له نتائج هذا العمل وبرکاته المادیة والمعنویة، وهذا التفکیر یطهّر روح الإنسان من البخل والحسد، ویحوّل الحیاة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حیث یشعر کل فرد بأنّه مسؤول أن یضع ما لدیه من مواهب تحت تصرف کل المحتاجین، مثل الشمس تفیض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقع من أحد جزاء.
فی حدیث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام) بشأن تفسیر الآیة (وممّا رزقناهم ینفقون ) یقول: «إنَّ مَعْنَاهُ وِمِمّا عَلَّمْنَاهُمْ یَبُثُّونَ» (2) .
بدیهی أنّ الرّوایة لا ترید أن تجعل الإنفاق مختصّاً بالعلم، بل إنّ الإمام الصادق یرید ـ بذکر هذا اللون من الإنفاق ـ أن یوسّع مفهوم الإنفاق کی لا یکون مقتصراً على الجانب المالی کما یتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.
ومن هنا یتضح ضمنیّاً أنّ الإنفاق المذکور فی الآیة، لا یقتصر على الزکوات الواجبة والمستحبة، بل یتسع معناه لیشمل کل مساعدة بلا مقابل.