هذا السّؤال الاستنکاری ـ وإن کان موجهاً إلى بنی إسرائیل کما یتبیّن من سیاق الآیات السابقة والتالیة ـ له حتماً مفهوم واسع یشمل الآخرین أیضاً.
قال «الطّبرسی (رحمه الله)» فی «مجمع البیان»: هذه الآیة خطاب لعلماء الیهود، وبّخهم الله تعالى على ما کانوا یفعلون من أمر النّاس بالإیمان بمحمّد (صلى الله علیه وآله) وترک أنفسهم فی ذلک. (1)
وقال أیضاً: کان علماء الیهود یقولون لأقربائهم من المسلمین اثبتوا على ما أنتم علیه ولا یؤمنون هم. (2)
لذلک کانت الآیة الاُولى من الآیات التی یدور حولها بحثنا تحمل توبیخاً لهذا العمل: (أتأمرون النّاس بالبرِّ وتنسون أنفسکم وأنتم تتلون الکتاب أفلا تعقلون )؟!
منهج الدعاة إلى الله یقول على أساس العمل أوّلا ثم القول، فالدّاعیة إلى الله یبلّغ بعمله قبل قوله، کما جاء فی الحدیث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام): «کُونُوا دُعَاةَ النَّاسِ بِأَعْمَالِکُمْ وَلاَ تَکُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِکُمْ» (3) .
التأثیر العمیق للدعوة العملیة یأتی من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ قلب السامع، فالسامع یثق بما یقوله الداعیة العامل، ویرى أنّ هذا الداعیة مؤمن بما یقول وأن ما یقوله صادر عن القلب، والکلام الصادر عن القلب ینفذ إلى القلب، وأفضل دلیل على إیمان القائل بما یقوله، هو العمل بقوله قبل غیره، کما یقول علی (علیه السلام): «أَیُّهَا النَّاسُ إنِّی وَاللهِ مَا أَحُثُّکُمْ على طَاعَة إلاَّ وأَسْبِقُکُمْ إلَیْهَا، وَلاَ أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَة إلاَّ وَأَتَنَاهَىْ قَبْلَکُمْ عَنْهَا» (4) .
وفی حدیث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام): «مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً یَوْمَ الْقِیَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلا وَعَمِلَ بِغَیْرِهِ» (5) .
علماء الیهود کانوا یخشون من انهیار مراکز قدرتهم وتفرّق عامّة النّاس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبیاء (صلى الله علیه وآله)، ولذلک حرّفوا ما ورد بشأن صفات نبی الإسلام فی التوراة.
والقرآن یحث على الاستعانة بالصبر والصّلاة للتغلب على الأهواء الشخصیة والمیول النفسیة، فیقول فی الآیة التالیة: (واستعینوا بالصَّبر والصَّلاة ) ثم یؤکّد أنّ هذِهِ الاستعانة ثقیلة لا ینهض بعبئها إلاّ الخاشعون: (وإنَّها لکبیرةٌ إلاَّ على الخاشعین ).
وفی الآیة الأخیرة من هذه المجموعة وصف للخاشعین: (الَّذین یظنُّون أنَّهم ملاقوا ربِّهموأنَّهم إلیه راجعون ).
کلمة «یَظُنُّونَ» من مادة «ظنّ» وقد تأتی بمعنى الیقین (6) ، وفی هذا الموضع تعنی الإیمان والیقین القطعی، لأنّ الإیمان بلقاء الله والرجوع إلیه، یحیی فی قلب الإنسان حالة الخشوع والخشیة والإحساس بالمسؤولیة، وهذا أحد آثار تربیة الإنسان على الإیمان بالمعاد، حیث تجعل هذه التربیة الفرد ماثلا دوماً أمام مشهد المحکمة الکبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولیة وإلى الحق والعدل.
ویحتمل أن یکون استعمال «الظن» فی الآیة للتأکید، أی أنّ الإنسان لو ظنّ بالآخرة فقط فظنه کاف لأن یصده عن ارتکاب أی ذنب، وهو تقریع لعلماء الیهود وتأکید على أنّهم لا یمتلکون إیماناً بالیوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو ظنوا بالآخرة لأَحسّوا بالمسؤولیة، وکفّوا عن هذه التحریفات! (7)