تناولت الآیات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانیته، عن طریق عرض مظاهر لنظام الکون. وهذه الآیات تتحدث عن أولئک الذین أعرضوا عن کل تلک الدلائل الواضحة، وساروا على طریق الشرک والوثنیة وتعدّد الآلهة... عن اُولئک الذین یحنون رؤوسهم تعظیماً أمام الآلهة المزیفة، ویتعشقونها ویشغفون بها حبّاً لا یلیق إلاّ بالله سبحانه مصدر کل الکمالات وواهب جمیع النعم.
تقول الآیة: (ومن النَّاس من یتَّخذ من دون الله أنداداً)(1).
ولم یتخذ المشرکون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل (یحبُّونهم کحبِّ الله). (والَّذین آمنوا أشدُّ حبّاً لله)، لأنّهم أصحاب عقل وإدراک، یفهمون أنّ الله سبحانه مصدر کل الکمالات، وهو وحده اللائق بالحبّ، ولا یحبّون شیئاً آخر إلاّ من أجله. وقد غمر الحبّ الإلهی قلوبهم حتى أصبحوا یرددون مع أمیر المؤمنین علیّ(علیه السلام): «فَهَبْنِی صَبَرْتُ عَلى عَذَابِکَ، فَکَیْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِکَ»؟!(2).
الحبّ الحقیقی یتجه دائماً نحو نوع من الکمال، فالإنسان لا یحبّ العدم والنقص، بل یسعى دوماً وراء الوجود والکمال، ولذلک کان الأکمل فی الوجود والکمال أحق بالحبّ.
الآیة أعلاه تؤکد أن حبّ المؤمنین لله أشدّ من حبّ الکافرین لمعبوداتهم.
ولم لا یکون کذلک؟! فلا یستوی من یحبّ عن عقل وبصیرة، ومن یحبّ عن جهل وخرافة وتخیّل.
حبّ المؤمنین ثابت عمیق لا یتزلزل، وحبّ المشرکین سطحی تافه لا بقاء له ولا استمرار.
لذلک تقول الآیة: (ولو یرى الَّذین ظلموا إذ یرون العذاب أنَّ القوَّة لله جمیعاً وأنَّ الله شدید العذاب) لرأوا سوءَ فعلهم وسوءَ عاقبتهم(3).
فی هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعینهم، وحین یرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، یتّجهون إلى قادتهم ومعبودیهم، ولات حین ملاذ بغیر الله (إذتبرَّأ الَّذین اتُّبعوا من الَّذین اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب).
واضح أن المعبودین هنا لیسوا الأصنام الحجریة أو الخشبیة، بل الطغاة الجبابرة الذین استعبدوا النّاس، فقدّم لهم المشرکون فروض الولاء والطاعة، واستسلموا لهم دون قید أو شرط.
هؤلاء الغافلون المغفّلون حین یروا ما حلّ بهم یمنّون أنفسهم: (وقال الَّذین اتَّبعوا لو أنَّ لنا کرَّة فنتبرأ منهم کما تبرَّءوا منّا) لکنها اُمنیة لا تتحقق، وعبرت آیة اُخرى عن مثل هذا التمنی على لسان کافر یقول لمعبوده المزیف: (حتَّى إذا جاءنا قال یا لیت بینی وبینک بعد المشرقین فبئس القرین)(4).
ثم تقول الآیة: (کذلک یریهم الله أعمالهم حسرات علیهم وما هم بخارجین من النَّار).
لیس لهم إلاّ أن یتحسّروا، یتحسّروا على أموالهم التی کنزوها واستفاد منها غیرهم... وعلى فرصة الهدایة والنجاة التی توفّرت لهم فلم یستثمروها... وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.
لکنّها حسرة غیر نافعة... فالیوم یوم الجزاء على ما جنته ید الإنسان من أخطاء، ولیس یوم تلافی الأخطاء.