مرّ بنا أن القرآن الکریم یوبّخ الیهود بشدّة على التزامهم ببعض الأحکام الإلهیّة وترکهم لبعضها الآخر، وینذرهم بخزی الدنیا وبعذاب الآخرة وخاصّة فی عملهم بالأحکام الجزئیة، ومخالفتهم لأهم الاحکام الشرعیة، أی قانون حرمة إراقة الدماء، وتهجیر من یشارکهم فی العقیدة من دیارهم وأوطانهم.
هؤلاء فی الواقع التزموا بالأحکام التی تنسجم مع مصالحهم الدنیویة من الأحکام، أمّا حین تقتضی مصلحتهم أن یریقوا دم الآخرین ویستضعفوهم، فلا یألون جهداً فی إرتکاب کل ذلک مخالفین بذلک أهم أحکام ربّ العالمین. التزامهم بفداء الأسرى لاینطلق من روح تعبدّیة، بل من روح مصلحیة ترى أنّ من مصلحتها أن تفدی الأسرى الیوم، کی تُفدى هی حین تقع بالأسر فی المستقبل.
العمل بالأحکام المنسجمة مع مصالح الإنسان الدنیویة، لیس دلالة على طاعة الله وعبادته، لأنّ الدافع لم یکن الإستجابة إلى دعوة الله بقدر ما کان إستجابة لنداء الذات والمصالح الذاتیة، روح الطاعة تبرز لدى التزام الإنسان بما لا ینسجم مع مصالحه الآنیّة الذاتیة. وهذا هو المعیار الذی یمیّز به المؤمن عن العاصی، فالإزدواجیة فی الالتزام بأحکام الله تعالى، تدلّ على روح العصیان، بل أحیاناً على عدم الإیمان وبعبارة اُخرى، إنّ الإیمان یظهر أثره فیما لو کان القانون على خلاف مصالح الفرد ومع ذلک یلتزم به الفرد، وإلاّ فانّ العمل بالأحکام الشرعیة، إذا اتفقت مع المصالح الشخصیّة لایعتبر افتخاراً ولا علامة على الإیمان ولهذا یمکن تمییز المؤمنین عن المنافقین من هذا الطریق فالمؤمنون یلتزمون بجمیع الأحکام، والمنافقون یذهبون إلى التبعیض.
ومصیر هذه الاُمّة ـ بالتعبیر القرآنی ـ الخزی فی الدنیا وأشدّ العذاب فی الآخرة... ولا خزی أکبر من سقوط هذه الاُمّة السائرة على خط الإزدواجیة بید الغزاة الأجانب، وهبوطها فی مستنقع الذلة على الساحة العالمیة.
هذه السنّة الکونیة لا تقتصر على بنی إسرائیل، بل هی ساریة فی کل زمان ومکان، وتشملنا نحن المسلمین أیضاً، وما أکثر الذین یؤمنون ببعض الکتاب ویکفرون ببعض فی مجتمعاتنا الیوم! وما أشقى هؤلاء فی الدنیا والآخرة!
