فی هذه الآیات الأربع، تأکید على مقطع آخر من تاریخ بنی إسرائیل، وعلى أکبر انحراف اُصیبوا به فی تاریخهم الطویل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحید، والإتجاه إلى عبادة العجل، وهذا التأکید تذکیر لهم بما لحقهم من زیغ نتیجة إغواء الغاوین، وتحذیر لهم من تکرر هذه التجربة فی مواجهة الدین الخاتم: (وإذ واعدنا موسى أربعین لیلةً ) وهی لیالی افتراق موسى عن قومه، (ثمَّ اتَّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ).

شرح هذا المقطع من تاریخ بنی إسرائیل سیأتی فی سورة الأعراف الآیة 142 وما بعدها، وفی سورة طه الآیة 86 وما بعدها.

وخلاصته، إن موسى (علیه السلام) بعد نجاة بنی إسرائیل من قبضة الفراعنة اُمر بالذهاب إلى جبل الطور مدة ثلاثین لیلة لتسلم ألواح التوراة، ثم مُدّت هذه اللیالی إلى أربعین لیلة من أجل اختبار قومه، واستغل السامریّ الدّجال هذه الفرصة، فجمع ما کان لدى بنی إسرائیل من ذهب الفراعنة ومجوهراتهم، وصنع منها عجلا له صوت خاص، ودعا بنی إسرائیل لعبادته، فأتبعه أکثر بنی إسرائیل، وبقی هارون ـ أخو موسى وخلیفته ـ مع أقلیة من القوم

على دین التوحید، وحاول هؤلاء الموحّدون الوقوف بوجه هذا الانحراف فلم یفلحوا، وأوشک المنحرفون أن یقضوا على حیاة هارون أیضاً.

بعد أنّ عاد موسى من جبل الطور تألم کثیراً لما رآه من قومه، ووبّخهم بشدّة فثاب بنو إسرائیل إلى رشدهم، وأدرکوا خطأهم وطلبوا التوبة، فجاءهم أمر السماء بتوبة لیس لها نظیر، سنذکرها فیما یلی.

فی الآیة التالیة یقول سبحانه: (ثمَّ عفونا عنکم من بعد ذلک لعلکم تشکرون ).

وبعد إشارة إلى ما جاء بنی إسرائیل من هدایة تشریعیة: (وإذ آتینا موسى الکتابو الفرقان لعلکم تهتدون ).

کلمتا «الکتاب» و«الفرقان» قد تشیران کلاهما إلى التوراة، وقد یکون المقصود من «الکتاب» التوراة و«الفرقان» ما قدمه موسى من معاجز بإذن الله، لأنّ الفرقان یعنی فی الأصل ما یفرّق بین الحق والباطل.

ثم یشیر القرآن إلى طریقة التوبة المطروحة على بنی إسرائیل: (وإذ قال موسى لقومه یا قوم إنکم ظلمتم أنفسکم باتِّخاذکم العجل فتوبوا إلى بارئکم فاقتلوا أنفسکم ذلکم خیرٌ لکم عند بارئکم فتاب علیکم إنَّه هو التَّوَّاب الرَّحیم ).

و«البارئ» هو الخالق، وفی الکلمة إشارة إلى أن هذا الأمر الإلهی بالتوبة الشدیدة صادر عمّن خلقکم، وعمّن هو أعرف بما یضرّکم وینفعکم.