الآیات السابقة عرضت مفاهیم التعلیم والتربیة والذکر والشکر، وهی مفاهیم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعالیم الدینیة، وفی الآیة الاُولى من آیتی بحثنا دار الحدیث حول الصبر الذی لا تتحقق المفاهیم السابقة بدونه.
تقول الآیة أوّلا: (یا أیُّها الَّذین آمنوا استعینوا بالصَّبر والصَّلاة).
واجهوا المشاکل والصعاب بهاتین القوتین، فالنصر حلیفکم: (إنَّ الله مع الصَّابرین).
خلافاً لما یتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا یعنی تحمل الشقاء وقبول الذلّة والإستسلام للعوامل الخارجیة، بل الصبر یعنی المقاومة والثبات أمام جمیع المشاکل والحوادث.
لذلک قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطّاعة: أی المقاومة أمام المشاکل التی تعتری طریق الطاعة.
الصبر على المعصیة: أی الثبات أمام دوافع الشهوات العادیة وارتکاب المعصیة.
الصبر على المصیبة: أی الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهیار وترک الجزع والفزع.
قلّما کرر القرآن موضوعاً وأکد علیه کموضوع «الصبر»، ففی سبعین موضعاً قرآنیاً تقریباً دار الحدیث عن الصبر، بینها عشرة تختص بالنّبی(صلى الله علیه وآله).
تاریخ العظماء یؤکد أنّ أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمّها ـ صبرهم واستقامتهم، والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ینهزمون وینهارون، ویمکن القول أن دور هذا العامل فی تقدم الأفراد والمجتمعات یفوق دور الإمکانات والکفاءات والذکاء ونظائرها.
من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤکّدة کقوله تعالى: (إنَّما یوفَّى الصَّابرون أجرهم بغیر حساب).(1)
وفی موضع آخر یقول سبحانه بعد أنّ ذکر الصبر أمام الحوادث: (إنَّ ذلک من عزم الامور).(2)
من خصائص الصبر أنّ بقیة الفضائل لا یکون لها قیمة بدونه، لأنّ السند والرصید فی جمیعها هو الصبر، لذلک یقول أمیرالمؤمنین علی(علیه السلام): «وَعَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ فَإنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإیْمَانِ کَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَیْرَ فی جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِی إیمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ»(3).
الروایات الإسلامیة ذکرت أنّ أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى فی مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصی والذنوب.(4)
الآیة التی یدور حولها بحثنا تؤکّد للجماعة المسلمة الثائرة فی صدر الإسلام خاصّة أنّ الأعداء یحیطونهم من کل حدب وصوب، وتأمرهم أن یستعینوا بالصبر أمام الحوادث، فنتیجة ذلک استقلال الشخصیة والاعتماد على النفس والثّقة بالذات فی کنف الإیمان بالله، وتاریخ الإسلام یشهد بوضوح أنّ هذا الأصل کان أساس کل الإنتصارات.
الموضوع الآخر الذی أکّدت علیه الآیة أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». وروی أنّ علیّ(علیه السلام): «کَانَ إذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآیة: (واستعینوا بالصَّبر والصَّلاة...).(5)
ولا عجب فی ذلک، فالإنسان حین یرى نفسه أمام عواصف المشاکل المضنیة، ویحسّ بضعفه فی مواجهتها، یحتاج إلى سند قوی لا متناه یعتمد علیه، والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنینة الروحیة اللازمة لمواجهة التحدیات.
فالآیة أعلاه تطرح مبدأین هامّین: الأوّل ـ الاعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الاعتماد على النفس، وهو الذی عبّرت عنه الآیة بالصبر.
وبعد ذکر الصبر والاستقامة تتحدث الآیة التالیة عن خلود الشهداء، الذین یجسّدون أروع نماذج الصابرین على طریق الله.
تقول الآیة: (ولا تقولوا لمن یقتل فی سبیل الله أمواتٌ) ثم تؤکّد هذا المفهوم ثانیة بالإستدراک (بل أحیاءٌ ولکن لا تشعرون).
فی کل حرکة ـ أساساً ـ تنزوی مجموعة محبّة للعافیة، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تکتفی هی بالتقاعس والتکاسل، بل تسعى إلى تثبیط عزائم الآخرین وبثّ الرخوة والتماهل فی المجتمع، وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى یعربون عن أسفهم وینقمون على الحرکة التی أدّت إلى هذه الحادثة، غافلین أنّ کل هدف مقدّس یحتاج إلى تضحیات، وتلک سنّة کونیة.
القرآن الکریم یتحدث عن مثل هذه الفئة کراراً ویؤنّبهم بشدّة.
ثمّة أفراد من هؤلاء کانوا یتظاهرون بالتأسف والتألّم على (موت) شهید من شهداء الإسلام فی المعرکة، ویبعثون بذلک القلق والاضطراب فی النفوس.
والله سبحانه یردّ على هذه الأقاویل السامة بالکشف عن حقیقة کبرى هی إنّ الذین یضحون بأنفسهم فی سبیل الله لیسوا بأموات... هؤلاء أحیاء... ویتمتعون بنعم الله ورضوانه، لکن البشر المحدودین فی عالم الحسّ لا یدرکون هذه الحقائق.
1. الزمر، 10.
2. لقمان، 17.
3. نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 82.
4. أصول الکافی، ج 2، ص 591.
5. المصدر السابق، ج 3، ص 480.
