الفقرة الاُولى من الآیة تقول: (إنَّ الله لا یستحیی أن یضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها ).
ذلک لأنّ المثال یجب أن ینسجم مع المقصود، بعبارة اُخرى، المثال وسیلة لتجسید الحقیقة حین یقصد المتحدث بیان ضعف المدّعی وتحقیره فإنّ بلاغة الحدیث تستوجب انتخاب موجود ضعیف للتمثیل به، کیما یتضح ضعف اُولئک.
فی الآیة 73 من سورة الحج مثلا یقول سبحانه: (انَّ الَّذین تدعون من دون الله لن یخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن یسلبهم الذُّباب شیئاً لا یستنقذوه منه ضعف الطَّالب و المطلوب ).
یلاحظ فی هذا المثال أنّ الذباب وأمثاله أحسن وسیلة لتجسید ضعف هؤلاء.
وهکذا فی الآیة 41 من سورة العنکبوت، حین یرید القرآن أن یجسد ضعف المشرکین فی انتخابهم أولیاء من دون الله، یشبههم بالعنکبوت التی تتخذ لنفسها بیتاً، وهو أضعف البیوت وأوهنها: (مثل الَّذین اتَّخذوا من دون الله أولیاء کمثل العنکبوت اتَّخذت بیتاً وإنَّ أوهن البیوت لبیت العنکبوت لو کانوا یعلمون ).
من المؤکّد أنّ القرآن لو ساقَ الأمثلة فی هذه المجالات على الکواکب والسماوات لما أدّى الغرض فی التصغیر والتحقیر، ولما کانت أمثلته متناسبة مع أصول الفصاحة والبلاغة، فکأن الله تعالى یرید بهذه الأمثلة القول: بأنّه لا مانع من التمثیل بالبعوضة أو غیرها لتجسید الحقائق العقلیة فی ثیاب حسّیّة وتقدیمها للناس.
الهدف هو إیصال الفکرة، والأمثلة یجب أن تتناسب مع موضوع الفکرة، ولذلک فهو سبحانه یضرب الأمثلة بالبعوضة فما فوقها.
وما المقصود من (فما فوقها ) للمفسرین فی هذه رأیان:
الأوّل: «فوقها» فی الصغر، لأنّ المقام مقام بیان صغر المثال، وهذا مستعمل فی الحوار الیومی، نسمع مثلا رجل یقول لآخر: ألا تستحی أن تبذل کل هذا الجهد من أجل دینار واحد؟! فیجیب الآخر: لا، بل أکثر من ذلک أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دینار! فالزیادة هنا فی الصغر.
الثّانی: «فوقها» فی الکبر، أی إنّ الله یضرب الأمثال بالصغیر وبالکبیر، حسب مقتضى الحال.
لکن الرأی الأوّل یبدو أنسب.
ثم تقول الآیة: (فأمَّا الَّذین آمنوا فیعلمون أنَّه الحقُّ من ربِّهم )، فهؤلاء، بإیمانهم وتقواهم، بعیدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقیقة. ویستطیعون أن یروا الحق بجلاء ویدرکوا أمثلة الله بوضوح.
(وأمَّا الَّذین کفروا فیقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا یضلُّ به کثیراً ویهدی به کثیراً ).
هؤلاء یعترضون على هذه الأمثلة لأنّها لا تهدی الجمیع، ویزعمون أنّها لو کانت من عندالله لاهتدى بها النّاس جمیعاً، ولما أدّت الى ضلال أحد!
فیجیبهم الله بعبارة قصیرة تحسم الموقف وتقول: (وما یضلُّ به إلاَّ الفاسقین ).
فکل هذه الأمثلة من الله، وکلّها نور وهدایة، لکنها تحتاج إلى عین البصیرة التی تستفید منها، ومخالفة المخالفین تنطلق من نقص فیهم، لا من نقص فی الآیات الإلهیّة (1) .