تقدّم أنّ حجّاج بیت الله الحرام یتجّهون بعد أداء مناسک العمرة نحو أداء مناسک الحجّ، وأوّل موقف یقفون فیه هو فی «عرفات»، وهی صحراء واسعة تقع على بعد أربعة فراسخ من مکّة یقف فیها الحاج من ظهر یوم التاسع من ذی الحجّة حتى غروب ذلک الیوم، وفی سبب تسمیة هذه الأرض بهذا الاسم قیل: إنّ إبراهیم(علیه السلام) قال حین أراه جبرائیل مناسک الحجّ: «عرفت، عرفت».
وقیل: إنّ هذه القصة وقعت لآدم وحواء، وقیل: أیضاً إنّ آدم وحواء تعارفا فی هذا المکان، وقیل: إنّ حجاج بیت الله یتعارفون فیما بینهم فی هذا المکان، وتفسیرات اُخرى(1)(2).
ولا یبعد أن تکون التسمیة إشارة إلى حقیقة اُخرى أیضاً، وهی أنّ هذه الأرض المشرّفة التی تبدأ منها اُولى مراحل الحجّ محیط مناسب جدّاً لمعرفة الله تعالى. والحاجّ فی هذا الموقف یشعر حقّاً بانشداد روحی ومعنوی لا یمکن التعبیر عنه بالکلمات.
الحجیج فی هذه الأرض القاحلة متجمّعون بشکل واحد وبزیّ واحد، قد هربوا من بریق الحیاة وزخرفها وصخبها وضجیجها ولاذوا بهذه الأرض المشرّفة المفعمة بذکریات الرسالات السماویة، حیث یحمل نسیمها نداء جبرائیل وصوت الخلیل ودعوة النبیّ(صلى الله علیه وآله)الخاتِم(صلى الله علیه وآله)، وصحبه المجاهدین، وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحیة والإنقطاع إلى الله على مرّ التاریخ، کأنّ هذه الأرض نافذةٌ تشرف على عالم ما وراء الطبیعة، یرتوی فیها الإنسان من منهل العرفان، وینساق مع تسبیح الخلیقة العام، بل یعود أیضاً إلى ذاته التی انفصل عنها زمناً طویلاً فیعرف نفسه، ویعرف أنّه لیس بذلک الکائن اللاّهث لیل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن یرویه شیء، بل إنّه جوهر آخر کان یجهله قبل الوقوف فی عرفات... نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم! وما أعمق مدلوله!