فی هذه الآیات نلاحظ رد فعل الفرعونیین فی مقابل النوائب والبلایا المنبّهة الإلهیّة، ویستفاد من مجموعها أنّهم عندما کانوا یقعون فی مخالب البلاء ینتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جمیع العصاة، وکانوا یبحثون عن حیلة للتخلص منها، ویطلبون من موسى (علیه السلام) أن یدعو لهم، ویسأل الله فی خلاصهم، ولکن بمجرّد أن یزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث، ینسون کل شیء ویعودون إلى سیرتهم الاُولى.
وفی الآیة الاُولى نقرأ: (ولمّا وقع علیهم الرّجز قالوا یا موسى دع لنا ربّک بما عهد عندک ).
إنّهم عند نزول البلاء یلجأون إلى موسى ویطلبون منه أن یدعو لرفع العذاب عنهم، وأن یفی الله بما وعده له من استجابة دعائه: (عهد عندک ).
ثمّ یقولون: إذا دعوتَ فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لک بأن نؤمن بک، ونرفع طوق العبودیة عن بنی إسرائیل: (لئن کشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لک ولنرسلنّ معک بنی إسرائیل ).
ولفظة «الرجز» استعملت فی معانی کثیرة: البلایا الصعبة، الطاعون، الوثن والوثنیة، وسوسة الشیطان، والثلج أو البَرَد الصلب.
ولکن جمیع ذلک مصادیق مختلفة لمفهوم یشکّل الجذر الأصلی لتلک المعانی، لأنّ أصل
هذه اللفظة کما قال «الراغب» فی «المفردات» هو الإضطراب. وحسب ما قال «الطبرسی» فی «مجمع البیان» مفهومه الأصلی هو الانحراف عن الحق. (1)
وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبه والبلاء، لأنّها تصیب الإنسان لانحرافه عن الحق، وإرتکاب الذنب، وکذا یکون الرجز نوعاً من الانحراف عن الحق، والإضطراب فی العقیدة، ولهذا أیضاً یطلق العرب هذا اللفظ على داء یصیب الإبل، ویسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشی بخطوات قصیرة، أو تمشی تارة وتتوقف تارة اُخرى، فیقال لهذا الداء «الرَجَز» على وزن «المَرضْ».
والسبب فی إطلاق الرَجَز على الأشعار الحربیّة، لأنّها ذات مقاطع قصیرة ومتقاربة.
وعلى کل حال، فإنّ المقصود من «الرجز» فی الآیات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التی اُشیر إلیها فی الآیات السابقة، وإن احتمل بعض المفسّرین أن یکون إشارة إلى البلایا الاُخرى التی أنزلها الله علیهم ولم یرد ذکرها فی الآیات السابقة، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل، الذی وردت الإشارة إلیها فی التوراة.
هذا، وقد وقع کلام بین المفسّرین فی المراد من عبارة (بما عهد عندک ) وأنّه ما هو المقصود من ذلک العهد الإلهی الذی أعطاه سبحانه لموسى؟
إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلک الوعد الإلهی هو أن یستجیب دعاءه إذا دعاه، ولکن یحتمل أیضاً أن یکون المقصود هو عهد «النبوة» وتکون «الباء» باء القسم، یعنی نقسم علیک بحق مقام نبوتک إلاّ ما دعوت الله لیرفع عنّا هذا البلاء.
وفی الآیة اللاحقة یشیر إلى نقضهم للعهد ویقول: (فلمّا کشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ینکثون ). (2)
إنّ جملة (إلى أجل هم بالغوه ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعیّن أمداً، فکان یقول لهم: فی الوقت الفلانی سیرفع هذا البلاء عنکم، حتى یتّضح لهم أنّ إرتفاع ذلک البلاء عنهم لیس أمراً اتفاقیاً وصدفة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.
إنّ جملة (إذا هم ینکثون ) وبالنظر إلى أن «ینکثون» فعل مضارع یدلّ على الاستمراریة یفید أنّه قد تکرر تعهدّهم لموسى (علیه السلام) ثمّ نقضهم للعهد، حتى أصبح نقض العهد جزءاً من برنامجهم وسلوکهم الدائم.
وآخر هذه الآیات تبیّن ـ من خلال جملتین قصیرتین ـ عاقبة کلّ هذا التعنت، ونقض العهد، فتقول بصورة مجملة (فانتقمنا منهم ).
ثمّ تشرح هذا الإنتقام وتذکر تفصیله (فأغرقناهم فی الیمّ بأنّهم کذّبوا بآیاتنا وکانوا عنها غافلین ) (3).
إنّهم لم یکونوا غافلین واقعاً، لأنّ موسى (علیه السلام) ذکّرهم مراراً وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم، بل إنّهم تصرّفوا عملیاً کما یفعل الغافلون، فلم یعتنوا بآیات الله أبداً.
ولا شک أن المقصود من الإنتقام الإلهی لیس هو أنّ الله کان یقوم بردّ الفعل فی مقابل أعمالهم، کما یفعل الأشخاص الحاقدون الذین ینطلقون فی ردود أفعالهم من مواقع الحقد والإنتقام، بل المقصود من الإنتقام الإلهی هو أن الجماعة الفاسدة وغیر القابلة للإصلاح لا یحق لها الحیاة فی نظام الخلق، ولابدّ أن تمحى من صفحة الوجود.
والإنتقام فی اللغة العربیة ـ کما أسلفنا ـ یعنی العقوبة والمجازاة، لا ما هو شائع فی عرف الناس الیوم.