من کل ما قلناه یتّضح الجواب على سؤال یدور کثیراً بین جماعة من الناس، وهو: إذا کان الإیمان والتقوى یبعثان على نزول أنواع البرکات الإلهیّة، ویکون العکس موجباً لسلب البرکات، فلماذا نشاهد الشعوب غیرالمؤمنة ترفل فی الرخاء والرفاه، فی حین یعیش جماعة من أهل الإیمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتین:

1ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غیرالمؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل فی النعمة والرخاء وتغرق فی السعادة هو تصور خاطیء ینبع من اشتباه أکبر، وهو اعتبار الثروة دلیلا على السعادة.

إنّ الناس یتصورون ـ عادة ـ أنّ کل شعب امتلک صناعة أکثر تقدماً، وثروة أکبر، کان أسعد من غیره، فی حین لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التی تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن کثب، فسوف نُسلّم أن أکثر تلک الشعوب هی من أشقى سکان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبیّ إنّما هو نتیجة استخدامهم لاُصول ومبادیء مثل السعی والإجتهاد، والنظم والشعور بالمسؤولیة التی هی جزء من تعالیم الأنبیاء، ومن صلب توجیهاتهم.

فی هذه الأیّام ـ التی نکتب فیها هذا القسم من التّفسیر ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث فی نیویورک ـ التی هی واحدة من أکبر نقاط العالم المادی ثروة وأکثرها تقدماً ـ حادث جدّ عجیب على أثر انقطاع فجائی للتیار الکهربائی، وذلک الحادث هو أنّ کثیراً من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا کل ما فیها بحیث إنّ ثلاثة آلاف من المغیرین على المحلات اعتقلوا بواسطة البولیس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغیرین ـ فی الواقع ـ أکثر بأضعاف من هذا العدد، وهذا العدد هم الذین لم یمکنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البولیس، کما أنّه من المسلّم أنّ المغیرین لم یکونوا سراقاً محترفین هیّأوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومیة، لأنّ الحادثة المذکورة کانت حادثة فجائیة.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة إنقطاع عابر للتیار الکهربائی یتحول عشرات الالآف من سکان مدینة ثریة ومتقدمة ـ کما یشاؤون تسمیتها ـ إلى لصوص وسراق، إنّ هذا لا یدل على الإنحطاط الخلقی لدى شعب من الشعوب فحسب، بل یدل على فقدان الأمن الاجتماعی الشدید أیضاً.

والخبر الآخر الذی نقلته الصحف، ویکمل ـ فی الحقیقة ـ هذا الخبر، وهو أنّ أحد الشخصیات المعروفة کان یقیم فی تلک الأیّام فی نیویورک، فی أحد الفنادق الشهیرة ذات العشرات من الطوابق، قال: إنّ انقطاع التیار الکهربائی تسبب فی أن یمسی التجول فی معابر

وصالات ذلک الفندق عملا بالغ الخطورة، بحیث إنّ مسؤولی الفندق ما کانوا یسمحون لأحد بأن یغادر مکانه إلى غرفته حتّى لایتعرض للمغیرین داخل صالات الفندق، ولهذا نظموا المسافرین والنزلاء فی جماعات مکونة من عشرة أو أکثر، وتولى موظفون مسلحون إیصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ یضیف ذلک الشخص المذکور: أنّه ما لم یعانِ من الجوع الشدید لم یجرأ على الخروج من غرفته.

ولکن انقطاع التیار الکهربائى هذا یقع فی البلاد المتأخرة الشرقیة کثیراً، ولکن لا تحدث مثل هذه المشاکل، وهذا یفید أن سکان البلدان المتقدمة رغم کونهم یمتلکون ثروة عظیمة، وصنائع عظیمة، لا یملکون أدنى قدر من الأمن فی بیئتهم.

هذا مضافاً إلى أنّ شهود عیان یقولون: إنّ القتل والإغتیال فی تلک البیئات کشرب الماء من حیث السهولة والیسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطینا الدنیا کلها لأحد وکان یعیش فی مثل هذه الظروف، کان من أشقى أهل الأرض... على أنّ مشکلة الأمن هی واحدة من مشکلاتهم، وإلاّ فهناک مفاسد اجتماعیة اُخرى کل واحد منها بدوره حالة مؤلمةً جداً... ومع الإلتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

2ـ أمّا ما یقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلیة بالإیمان والتقوى، فإذا کان المقصود من الإیمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وإدعاء أتباع مبادىء الأنبیاء وتعالیمهم، فالاعتراض وجیه، ولکننا لا نعتبر حقیقة الإیمان والتقوى إلاّ نفوذهما فی جمیع أعمال الإنسان، وجمیع شؤون الحیاة، وهذا أمر لا یتحقق بمجرّد الادّعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّاً أن نجد التعالیم الإسلامیة ومبادىء الأنبیاء متروکة أو شبه متروکة فی کثیر من المجتمعات الإسلامیة، فملامح هذه المجتمعات لیست ملامح مجتمعات المسلمین الصادقین الحقیقیین.

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والإستقامة والأمانة والإجتهاد والجد، فأین تلک الأمانة والإجتهاد؟

إنّ الإسلام یدعو إلى العلم والمعرفة والیقظة والوعی، فأین ذلک العلم والوعی والیقظة؟!

وإن الإسلام یدعو إلى الإتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفانی، فهل سادت هذه

الأصول والمبادىء فی المجتمعات الإسلامیة الحاضرة بصورة کاملة، ومع ذلک بقیت متخلّفة؟!

لهذا یجب أن نعترف بأنّ الإسلام شیء، والمسلمون الیوم شیء آخر.

فی الآیات اللاحقة ولمزید من التأکید على عمومیة هذا الحکم، وأن القانون أعلاه لیس خاصاً بالأقوام الغابرة بل یشمل الحاضر والمستقبل أیضاً ـ یقول: هل أنّ المجرمین الذین یعیشون فی نقاط مختلفة من الأرض یرون أنفسهم فی أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهیّة، فتنزل بهم صاعقة أو یصبهم زلزال فی اللیل وهم نائمون (أفأمن أهل القرى أن یأتیهم بأسنا بیاتاً وهم نائمون ).

وهل هم فی أمان من ذلک العذاب فی النهار وهم غارقون فی أنواع اللهو واللعب (أو أمن أهل القرى أن یأتیهم بأسنا ضحًى وهم یلعبون ).

یعنی أنّهم فی قبضة القدرة الإلهیّة فی جمیع الأحوال والأوقات، لیلا ونهاراً، فی الیقظة والنوم، فی ساعات الفرح والترح، وبإشارة واحدة وأمر واحد یقضى علیهم جمیعاً، ویطوی صفحة حیاتهم نهائیاً، دون الحاجة إلى مقدمات وأسباب قبلیة، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل فی لحظة واحدة، ومن دون أیة مقدمات یمکن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجیب أنّ البشریة الحاضرة، رغم کل ما أحرزته من تقدم ورقی فی الصنائع وفی التکنولوجیا، ومع أنّها سخرت طاقات الکون والطبیعة المختلفة لخدمة نفسها، فإنّها ضعیفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث، بنفس المقدار من العجز والضعف الذی کان علیه إنسان العصور السابقة. یعنی أن الإنسان لم یتغیر حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاریخ، وهذه علامة قویة على نهایة عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوّته... وهذه حقیقة یجب أن یجعلها الإنسان نصب عینیه دائماً وأبداً.

وفی الآیة اللاحقة یعود القرآن الکریم إلى ذکر وتأکید هذه الحقیقة بشکل آخر فیقول: أفأمن المجرمون من المکر الإلهی فی حین لا یأمن مکره إلاّ الخاسرون (أفأمنوا مکر الله فلا یأمن مکر الله إلاّ القوم الخاسرون ).

و«المکر» ـ کما قلنا فی ذیل الآیة 94 من سورة آل عمران ـ یعنی فی اللغة العربیة کل حیلة ووسیلة لصرف الشخص عن الهدف الذی یمضی إلیه، سواء کان حقاً أو باطلا، وقد

أخذ فی مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدریجی.

وعلى هذا فالمراد من المکر الإلهی، هو أنّ الله تعالى یصرفهم بخططه القویة التی لا تقهر عن حیاة الرفاه واللذة دون اختیارهم ویقطعها علیهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهیّة الفجائیة والمهلکة.