إنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحیات رجال الدین المسیحیین المعاصرین قد اتسعت إتساعاً مضحکاً بحیث إنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبإمکانهم طرد الأشخاص وتکفیرهم أو قبولهم لأتفه الاُمور.
إلاّ أنّ القرآن، فی هذه الآیة وفی آیات اُخرى ینفی صراحة أن یکون لأحد الحقّ، بل ولا لرسول الله (صلى الله علیه وآله)نفسه فی أن یطرد أحداً أظهر إیمانه ولم یفعل ما یوجب إخراجه من الإسلام، وأنّ غفران الذنوب والحساب بید الله وحده، ولا یحقّ لأحد التدخّل فی هذا أبداً.
والکلام هنا عن «الطرد الدینی» لا «الطرد الحقوقی» فلو کانت إحدى المدارس وقفاً على طبقة خاصّة من الطلاب، وقُبل أحدهم فیها لتوفّر شروط القبول فیه، ثمّ فقد بعض تلک الشروط، فإنّ طرده وإخراجه من تلک المدرسة لا مانع فیه، کذلک لو أنّ مدیر مدرسة اُعطیت له صلاحیات معیّنة لغرض إدارة شؤونها، فله کلّ الحقّ فی الاستفادة من تلک الصلاحیات لحفظ النظام ورعایة مصالح المدرسة (فما ورد فی حدیث صاحب تفسیر المنار عند تفسیره الآیة ممّا یخالف هذا المعنى ناشئ من الاشتباه بین الطرد الدینی والطرد الحقوقی).
الآیة الثّانیة یحذّر فیها القرآن أصحاب المال والثروة من أنّ هذه الاُمور اختبار لهم، فإذا لم یجتازوا الامتحان فعلیهم أن یتحمّلوا العواقب المؤلمة، فالله یمتحن بعضهم ببعض: (وکذلک فتّنا بعضهم ببعض ).
«الفتنة» تعنی هنا الامتحان(1) وأىّ إمتحان أصعب ممّا یمرّ به الأغنیاء الذین کانوا قد اعتادوا لسنوات طویلة على الترفّع على الطبقات الدنیا، فلا یشارکونهم أفراحهم وأتراحهم، بل حتى أنّهم یبعدون قبور موتاهم عن قبورهم، أمّا الآن فیطلب منهم أن یتخلّوا عن کل ذلک وأن یحطمّوا کل تلک العادات والسنن، ویکسروا القیود والسلاسل لیلتحقوا بدین طلائعه من الفقراء ومن یسمون بالطبقة الدنیا.
ثمّ تضیف الآیة أنّ الأمر یصل بهؤلاء إلى أنّهم ینظرون إلى المؤمنین الصادقین نظرة احتقار (لیقولوا أهؤلاء منّ الله علیهم من بیننا )(2)؟!
ثمّ تجیب الآیة على المعترضین مؤکّدة أنّ هؤلاء الأشخاص اُناس شکروا نعمة التشخیص الصحیح بالعمل، کما أنّهم شکروا نعمة دعوة رسول الله (صلى الله علیه وآله) بقبولها، فأىّ نعمة أکبر، وأىّ شکر أرفع، ولذلک رسّخ الله الإیمان فی قلوبهم: (ألیس الله بأعلم بالشّاکرین ).