مرّة اُخرى یعود القرآن لیتطرّق إلى المنکرین المعاندین، فیقول: (والّذین کذّبوا بآیاتنا صمّ وبکم فی الظّلمات ) فهم لا یملکون آذاناً صاغیة لکی یستمعوا إلى الحقائق، ولا ألسناً ناطقةً بالحقّ توصل إلى الآخرین ما یدرکه الإنسان من الحقائق، ولمّا کانت ظلمات الأنانیة وعبادة الذات والمعاندة والجهل تحیط بهم من کل جانب، فهم لا یستطیعون رؤیة وجه الحقیقة، ولذلک فهم محرومون من النعم الثلاث التی تربط الإنسان بالعالم الخارجی (أی السمع والبصر والنطق).
یرى بعض المفسّرین أنّ المقصود بالصمّ هم المقلِّدون الذین یتبعون قادتهم الضالین دون إعتراض، ویصمون آذانهم عن سماع دعوات الهداة الإلهیین، وإنّ المقصود بالبُکم هم اُولئک القادة الضالون الذین یدرکون الحقائق جیّداً، ولکنّهم حفاظاً على مصالحهم ومراکزهم الدنیویة، یکمون أفواههم، ولا ینطقون بالحقّ، فکلا الفریقین غریقان فی ظلمات الجهل وعبادة الذات(1).
وبعد ذلک یقول القرآن الکریم: (من یشإ الله یضلله ومن یشأ یجعله على صراط مستقیم ).
سبق أن قلنا إنّ نسبة الهدایة والضلالة إلى مشیئة الله وإرادته نسبة تفسّرها آیات اُخرى فی القرآن یقول سبحانه: (یضل الله الظّالمین )(2) ویقول: (وما یضل به إلاّ الفاسقین )(3) وفی موضع آخر یقول: (والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا )(4) یتّضح من هذه الآیات وغیرها من الآیات القرآنیة أنّ الهدایة والضلالة اللتین تنسبان فی هذه الحالات إلى مشیئة الله إنّما هما فی الحقیقة ثواب الله وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السیئة.
وبعبارة اُخرى: قد یرتکب الإنسان أحیاناً إثماً کبیراً یؤدّی به إلى أن یحیط بروحه ظلام مخیف، فتفقد عینه القدرة على رؤیة الحقّ، وتفقد أذنه القدرة على سماع صوت الحقّ، ویفقد لسانه القدرة على قول الحقّ.
وقد یکون الأمر على عکس ذلک، أی قد یعمل الإنسان أعمالا صالحة کثیرة بحیث إنّ عالماً من النّور والضوء یشع فی روحه، فیتسع بصره وبصیرته، وتزداد أفکاره إشعاعا، ویکون لسانه ابلغ فی إعلان الحقّ، ذلکم هو مفهوم الهدایة والضلالة اللتین تنسبان إلى إرادة الله ومشیئته.
1. تفسیر المیزان، ج 7، ص 84.
2. إبراهیم، 27.
3. البقرة، 26.
4.العنکبوت، 69.
