ذکرت روایات عدیدة فی سبب نزول هاتین الآیتین، ولکنّها متشابهة، من ذلک ما جاء فی تفسیر «الدر المنثور»: مرّت جماعة من قریش بمجلس رسول الله (صلى الله علیه وآله) حیث کان «صهیب» و«عمار» و«بلال» و«خباب» وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرین فیه، فتعجبوا من ذلک (لأنّهم کانوا یحسبون أنّ شخصیة المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم یستطیعوا إدراک المنزلة المعنویة لهؤلاء الأشخاص، ولا ما سیکون لهم من دور بنّاء فی إیجاد المجتمع الإسلامی والإنسانی الکبیر) فقالوا: یا محمّد! أرضیت بهؤلاء من قومک، أفنحن نکون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذین منّ الله علیهم؟! اطردهم عنک، فلعلک إن طردتهم اتّبعناک، فأنزل الله الآیة.(1)

بعض مفسّری أهل السنّة، مثل صاحب تفسیر (المنار) یورد حدیثاً بهذا المضمون، ثمّ یقول: إنّ عمر بن الخطاب کان حاضراً واقترح على رسول الله (صلى الله علیه وآله) أن یقبل عرض هؤلاء الملأ من قریش، لیتبیّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآیتان فی رفض إقتراحه.(2)

ینبغی ألاّ یغرب عن البال أنّ ذکر سبب نزول بعض آیات هذه السورة لا یتنافی مع نزول السورة کلّها فی مکان واحد، فقد سبق أن قلنا إنّ من الممکن أن تقع حوادث مختلفة فی أوقات مختلفة قبل نزول السورة، ثمّ تنزل السورة بشأن تلک الحوادث.

یلزم هنا أن نذکر أنّه جاء فی روایة أنّ الملأ من قریش ـ حینما رفض رسول الله عرضهم ـ اقترحوا علیه شیئاً آخر، وقالوا له: لو نحیّت هؤلاء حتى نخلو بک... فإذا انصرفنا، فإذا شئت أعدتهم إلى مجلسک، فأجابهم النّبی إلى ذلک، فقالوا له: اکتب لنا بهذا على نفسک کتاباً، فدعا بصحیفة وأحضر علیاً لیکتب، فنزل جبرائیل بالآیة تنهى عن ذلک.(3)

غیر أنّ هذه الروایة، على الرغم من کونها لا تنسجم مع روح تعالیم الإسلام التی رفضت دوماً المساومة فی مثل هذه الحالات، وأکّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإسلامی، فإنّها لا تنسجم مع الآیة السابقة: (إن أتّبع إلاّ ما یوحى إلیّ ) فکیف یمکن لرسول الله (صلى الله علیه وآله) قبول الإقتراح دون انتظار للوحی.

ثمّ إنّ عبارة (ولا تطرد ) فی بدایة الآیة تدل على أنّهم قد طلبوا طرد اُولئک، لا التناوب معهم، والبون شاسع بین طلب الطرد وطلب التناوب، وهذا یدل على أنّ سبب نزول الآیة هو ما أوردناه أوّلا.

1. تفسیر المیزان، ج 7، ص 109.
2. المصدر السابق.
3. تفسیر مجمع البیان، ج 4، ص 62; وبحارالانوار، ج 22، ص 33.