الأمر الآخر الذی ینبغی الإلتفات إلیه هنا هو أنّ لفظة (نور) ترد فی القرآن بصیغة المفرد، بینما الظلمة تأتی بصیغة الجمع (ظلمات).
وقد یکون هذا إشارة لطیفة إلى حقیقة کون الظلام (المادی والمعنوی) مصدراً دائماً للتشتت والإنفصال والتباعد، بینما النّور رمز التوحّد والتجمّع.
طالما شاهدنا أنّنا فی اللیلة الصیفیة الظلماء نوقد سراجاً فی فناء الدار، ثمّ لا تمضی إلاّ دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمّعاً حیّاً حول النّور، ولکنّنا إذا أطفأنا السراج تفرّقت الحشرات کلّ إلى جهة، کذلک الحال فی الشؤون المعنویة والاجتماعیة، فنور العلم والقرآن والإیمان أساس الوحدة، وظلام الجهل والکفر والنفاق أساس التفرّق والتشتت.
قلنا: إنّ هذه السورة تسعى إلى لفت نظر الإنسان إلى العالم الکبیر لتثبیت قواعد عبادة الله والتوحید فی القلوب، توجّه نظره أوّلا إلى العالم الکبیر، والآیة التّالیة تلفت نظره إلى العالم الصغیر (الإنسان) فتشیر إلى أعجب أمر، وهو خلقه من الطین فتقول (هو الذی خلقکم من طین ).
صحیح أنّنا ولدنا من أبوینا، لا من الطین، ولکن بما أنّ خلق الإنسان الأوّل کان من الطین، فیصح أن نخاطب نحن أیضاً على أنّنا مخلوقین من الطین.
وتستمر السورة فتشیر إلى مراحل تکامل عمر الإنسان فتقول: إنّ الله بعد ذلک عیّن مدّة یقضیها الإنسان على هذه الأرض للنمو والتکامل: (ثمّ قضى أجلا ).
«الأجل» فی الأصل بمعنى «المدّة المعیّنة» و«قضاء الأجل» یعنی تعیین تلک المدّة أو إنهاءها، ولکن کثیراً ما یطلق على الفرصة الأخیرة اسم «الأجل»، فتقول، مثلا: جاء أجل الدَّین، أی أنّ آخر موعد التسدید الدّین قد حلّ. ومن هنا أیضاً یکون التعبیر عن آخر لحظة من لحظات عمر الإنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت.
ثمّ لإستکمال البحث تقول: (وأجل مسمّىً عنده ).
بعد ذلک تخاطب الآیة المشرکین وتقول لهم: (ثمّ أنتم تمترون ) أی تشکّون فی قدرة الخالق الذی خلق الإنسان من هذه المادة التافهة (الطین) واجتاز به هذه المراحل المدهشة، وتعبدون من دونه موجودات لا قیمة لها کالأصنام.