لقد وقع کلام کثیر بین المفسّرین فی هذا الصعید، ولکن ما یبدو للنظر من مجموع الآیات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّی آثاره بمنزلة تجلیه نفسه) ولکن ماذا کان ذلک المخلوق؟ هل کان إحدى الآیات الإلهیّة العظمیة التی بقیت مجهولة لنا إلى الآن، أو أنّه نموذج من قوة الذرَّة العظیمة، أو الأمواج الغامضة العظیمة التأثیر والدفع، أو الصاعقة العظیمة الموحشة التی ضربت الجبل وأوجدت برقاً خاطفاً للأبصار وصوتاً مهیباً رهیباً وقوّة عظیمة جداً، بحیث حطّمت الجبل ودکّته دکّ (1)؟!
وکأنّ الله تعالى أراد أن یُرِىَ ـ بهذا العمل ـ شیئین لموسى (علیه السلام) وبنی إسرائیل:
الأوّل: أنّهم غیر قادرین على رؤیة ظاهرة جد صغیرة من الظواهر الکونیة العظیمة، ومع ذلک کیف یطلبون رؤیة الله الخالق.
الثانی: کما أنّ هذه الآیة الإلهیّة العظیمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أکثر، لیست قابله للرؤیة بذاتها، بل المرئی هو آثارها، أی الرجة العظیمة، والمسموع هو صوتها المهیب، أمّا أصل هذه الأشیاء أی تلک الأمواج الغامضة أو القوة العظیمة فلا هی ترى بالعَین، ولا هی قابلة للإدراک بواسطة الحواس الاُخرى، ومع ذلک هل یستطیع أحد أن یشک فی وجود مثل هذه الآیة، ویقول: حیث إنّنا لا نرى ذاتها، بل ندرک فقط آثارها فلا یمکن أن نؤمن بها.
فإذا یصح الحکم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فکیف یصح أن یقال عن الله تعالى: بما أنّه غیر قابل للرؤیة، إذن لا یمکننا الإیمان به، مع أنّه ملأت آثاره کل مکان؟
وهناک احتمال آخر فی تفسیر هذه الآیة وهو أنّ موسى (علیه السلام) طلب لنفسه هذا المطلب حقیقة، ولکن لم یکن مقصوده مشاهدته بالعین التی تستلزم جسمانیته تعالى، وتنافی نبوة موسى (علیه السلام)، بل المقصود هو نوع من الإدراک الباطنی والمشاهدة الباطنیة، نوع من الشهود الکامل الروحیّ والفکری، لأنّه کثیراً ما تستعمل الرؤیة فی هذا المعنى مثلما نقول: «أنا أرى فی نفسی قدرةً على القیام بهذا العمل» فی حین أنّ القدرة لیست شیئاً قابلا للرؤیة، بل المقصود هو أنّنی أجد هذه الحالة فی نفسی بوضوح.
کان موسى (علیه السلام) یرید أن یصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، فی حین أنّ الوصول إلى هذه المرحلة لم یکن ممکناً فی الدنیا، وإن کان ممکناً فی عالم الآخرة الذی هو عالم الشهود.
ولکن الله تعالى أجاب موسى (علیه السلام) قائلا: إنّ مثل هذه الرؤیة غیر ممکنة لک، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل، فتحطَّم الجبل وتلاشى، وبالتالی تاب موسى من هذا الطلب. (2)
ولکن هذا التّفسیر مخالف لظاهر الآیة المبحوثة هنا، ویتطلب ارتکاب التجوّز من جهات عدیدة (3) هذا مضافاً إلى أنّه ینافی بعض الرّوایات الواردة فی تفسیر الآیة أیضاً، فالحق هو التّفسیر الأول.