رسمت الآیات المتقدمة للقلوب التی تقبّلت بذور الإیمان رسماً جمیلا وبلیغاً.
فهی لیست من نسیج الأشخاص الانتهازیین الذین ملئت قلوبهم من التعصب والجهل، والکلام البذیء السیء الفارغ، والبخل والحقد، وما إلى ذلک!!.
إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل کلّ شیء القیود التی فرضها التقلید الأعمى، ثمّ أصغوا بکلّ دقّة إلى نداء التوحید، وحین وجدوا الدلائل الحقّة بقدر کاف استجابوا له!.
ولا شکّ أنّ على هؤلاء أن یدفعوا ثمناً غالیاً، لأنّهم خرجوا عن طوق التقلید الأعمى وحطموا أغلاله، وتحرروا عن محیطهم المنحرف، وعلیهم أن یتحملوا الکثیر من المشاکل والمتاعب فی هذا السبیل ولکنّهم یتمتعون بصبر واستقامة فی سبیل هدفهم الکبیر ما یعینهم على تحمل تلک الشدائد والمصاعب.
فهؤلاء لیسوا حاقدین، ولا یردون السوء بالسوء، ولا هم بخلاء ولا خسیسون، لیجعلوا المواهب الإلهیة خاصة بهم!.
إنّهم أناس عظام بعیدون عن الکذب والإنشغال غیر الصحیح، والکلام الفارغ الرکیک، والمزاح وغیره.
لهم ألسنة طیبة وقلوب أطیب، ولا یضیعون طاقاتهم فی الردّ على الجهلاء... بل فی کثیر من الأحیان یفضلون السکوت على الکلام والردّ على الجهّال!
ویفکرون فی أعمالهم ومسؤولیاتهم، ویمضون کأنّهم الظماء إلى النبع، الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.
أجل هؤلاء العظام هم الذین یستطیعون أن یستوعبوا رسالة الإیمان فی نفوسهم، لیؤتوا أجرهم.. لا مرّة واحدة، بل یؤتیهم الله أجرهم مرّتین بما صبروا!.
هؤلاء أمثال سلمان الفارسی والنجاشی وبحیرا الراهب الذین هم فی خط واحد وفی جبهة واحدة، والذین بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب لیصلوا إلى معنى «الإیمان».
ومن الطریف أنّنا نقرأ حدیثاً للإمام الصادق(علیه السلام) فی هذا الصدد یقول: «نحن صُبر وشیعتنا أصبر منّا وذلک أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا یعلمون».(1)
تأملوا لو أنّ شخصین من المؤمنین توجها إلى میدان الجهاد، أحدهما یعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر، والآخر لا یعلم، ألا یکون صبر الثّانی أکثر من صبر الأول؟!.
أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن کلا منهما سیشرب من کأس الشهادة، لکن أحدهما یعلم ما فی شهادته من أسرار خفیة وماذا ستحرک من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادیة، وأنّه سیکون أسوة وقدوة للأحرار... أمّا الثّانی فلا یعرف شیئاً عن ذلک، فلا شک أنّ الثّانی أصبر من الأوّل فی هذا الصدد.
وفی حدیث آخر ورد فی تفسیر علی بن ابراهیم قال: «اللغو» الکذب، «اللهو» الغناء، والمعرضون عن اللغو و«المتقون» هم الأئمّة(علیهم السلام) یعرضون عن ذلک کلّه(2).
وواضح أنّ الحدیثین من قبیل المصداق البارز، وإلاّ فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ویشمل غیر ما ذکرنا، و«المعرضون عن اللغو» أیضاً هم جمیع المؤمنین الصادقین، وإن کان الأئمّة(علیهم السلام)فی طلیعتهم!