لا ریب فی أنّ لوجود الإنسان بعدین: بعد فردی، وآخر اجتماعی، ولهذا فله نوعان من الحیاة: حیاة خاصّة، وأخرى عامّة. ولکل واحدة خصائصها وآدابها، حیث یضطر الإنسان فی البیئة الاجتماعیة إلى تحمل قیود کثیرة من حیث اللباس والحرکة، ومواصلة الإنسان حیاته على هذا النسق وحده ـ خلال الأربع والعشرین ساعة ـ مُتعب ویبعث على الضجر، إذ أنّه یرغب فی أن یکون حراً خلال فترة من اللیل والنهار لیستریح بعیداً عن هذه القیود، مع أسرته وبین أولاده، لهذا یلجأ إلى منزله الخاص به، وینعزل بذلک عن المجتمع بشکل مؤقت، لیتخلص من قیوده، فیجب أن یکون محیط المنزل آمناً إلى حدٍّ کاف.
وأمّا إذا أراد کلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرین، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، ویسلب منها أمنها وحریتها، وبهذا تتحول إلى بیئة عامّة کالسوق والشارع. ولهذا السبب کانت بین الناس ـ على مرّ العصور ـ أعراف خاصّة فی هذا المجال، حتى أنّ جمیع قوانین العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرین دون استئذان وتعاقب علیه، وحتى فی حالات الضرورة القصوى ولغرض حفظ الأمن وغایات أخرى أجیز عدد قلیل على وفق القانون بالدخول إلیها.
ونصّت الأحکام الإسلامیة على تعالیم وآداب خاصّة فی هذا المجال، لا یشاهد نظیرها إلاّ نادراً.
نقرأ فی حدیث أنّ الصحابی الجلیل أبا سعید الخدری استأذن على الرّسول(صلى الله علیه وآله) وهو مستقبل الباب فقال علیه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».(1)
وجاء فی حدیث آخر أنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) کان إذا أتى باب قوم لم یستقبل الباب. من تلقاء وجهه ولکن من رکنه الأیمن أو الأیسر فیقول: السلام علیکم، وذلک لأنّ الدور لم یکن علیها حینئذ ستور.
وجاء فی الأحادیث الإسلامیة ضرورة استئذان المرء حین دخوله إلى منزل والده أو والدته، وحتى حین الدخول إلى منزل ولده.(2)
وجاء فی حدیث عن الرّسول(صلى الله علیه وآله) جواباً على استفسار رجل: قال: أستأذن على اُمی؟ أجاب(صلى الله علیه وآله): نعم. قال: إنّها لیس لها خادم غیری أفأستاذن علیها کلما دخلت؟ قال(صلى الله علیه وآله): أتحب أن تراها عریانة؟ قال الرجل لا، فقال(صلى الله علیه وآله): فاستأذن علیها(3).
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الباقر(علیه السلام) عن جابر بن عبد اللّه الانصاری قال: «خرج رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) یرید فاطمة(علیها السلام) وأنا معه فلما انتهینا إلى الباب وضع یده فدفعه ثمّ قال: السلام علیکم، فقالت: فاطمة(علیها السلام): علیک السلام یا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: اُدخل یارسول اللّه، قال(صلى الله علیه وآله):أدخل ومن معی؟ قالت: یارسول اللّه لیس علیّ قناع، فقال: یا فاطمة خذی فضل ملحفتک فقنعی به رأسک ففعلت، ثمّ قال: السلام علیکم، فقالت: وعلیک السلام یارسول اللّه، قال أدخل قالت: نعم یار سول اللّه، قال أنا ومن معی؟ قالت: ومن معک، قال جابر: فدخل رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) فدخلت...».(4)
وهذا الحدیث یبیّن لنا کیف کان النّبی(صلى الله علیه وآله) وهو القدوة للمسلمین کافة، یراعی هذه الاُمور بدقة، وحتى جاء فی حدیث.
عن أبی عبدالله الصادق(علیه السلام) قال: «الإستیذان ثلاثة: أوّلهنّ یسمعون، والثّانیة یحذرون، والثّالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم یفعلوا فیرجع المستأذن».(5)
ویرى بعض المفسّرین ضرورة وجود فواصل زمنیة بین کل استئذان وآخر، إذ قد یکون صاحب المنزل لم یتهیأ ـ بعد ـ بلباس مناسب، أو یرید تغییر هیئة أو إعداد منزله، فیجب إعطاءه فرصةً لیعدّ نفسه ومنزله لاستقبال ضیفه، وعلى الضیف الإنصراف دون انزعاج أو توتُّر إن لم یُسمح له بالدخول.
1. التفسیر الکبیر، ج 23، ص 198، ذیل الآیة مورد البحث.
2. المصدر السابق. 3. تفسیر نور الثقلین، ج 3، ص 586.
4. المصدر السابق، ص 587.
5. وسائل الشیعة، ج 14، ص 161، أبواب مقدمات النکاح، الباب 23.
