ورد التعبیر فی القرآن مراراً عن موسى أنّه عبر بقومه «البحر»(1) کما جاء فی بعض الآیات لفظ «الیمّ» بدلا من البحر.(2)
والآن ینبغی أن نعرف ما المراد من «البحر» و«الیم» هنا، أهو إشارة إلى النهر الکبیر الواسع فی مصر، النیل الذی یروی جمیع أراضیها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر «المعروف ببحر القلزم فی بعض المصطلحات»؟
یستفاد من التوراة الحالیة ـ وکذلک من کلمات بعض المفسّرین ـ أنّه إشارة إلى البحر الأحمر... إلاّ أنّ القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النیل، لأنّ «البحر» کما یقول الراغب فی مفرداته یعنی فی اللغة الماء الکثیر الواسع، والیم بهذا المعنى أیضاً. فلا مانع إذاً من إطلاق الکلمتین على نهر النیل.
وأمّا القرائن المؤیدة لهذا الرأی فهی:
1ـ إنّ منطقة سکن الفراعنة التی کانت مرکزاً لمدن مصر العامرة کانت نقطة قریبةً من النیل حتماً... وإذا أخذنا بنظر الإعتبار معیار محلهم الفعلی «الأهرام» أوما حولها، فإنّ بنی إسرائیل لابدّ لهم أن یعبروا نهر النیل لیصلوا إلى الأرض المقدسة، لأنّ هذه المنطقة تقع غرب النیل ولابدّ لهم من أن یتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة! «فلاحظوا بدقّة»!
2ـ إنّ الفاصلة بین المناطق العامرة(3) من مصر والتی هی قریبة من النیل بالطبع، بعیدة عن البحر الأحمر بحیث لا یمکن أن تُطوى المسافة بینها وبین البحر بلیلة أو نصف لیلة...
ویستفاد من الآیات المتقدمة بوضوح أنّ بنی إسرائیل غادروا أرض الفراعنة لیلا، وطبیعی أن تکون المغادرة فی اللیل. أمّا فرعون وجیشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقین «عند الصباح».
3ـ لم تکن حاجة لیعبر بنو إسرائیل البحر الأحمر حتى یصلوا الأرض المقدسة، إذ کانت هناک منطقة یابسة ضیقة قبل حفر ترعة السویس «أو ما یصطلح علیها بقناة السویس»... إلاّ أنّ نفترض أنّ البحر الأحمر کان متصلا بالبحر الأبیض المتوسط فی الزمن السابق، ولم تکن هناک منطقة یابسة، وهذا الفرض غیر ثابت بأیّ وجه!...
4ـ یُعبّر القرآن عن قصة موسى بإلقائه فی «الیم» «من قِبَلِ اُمه» الآیة 39 من سورة طه، کما یعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله: (فغشیهم من الیمّ ما غشیهم) الآیة 78 من السورة ذاتها. وکلتا القضیتین فی قصة واحدة وسورة واحدة أیضاً (طه) وکون اللفظین مطلقین ـ (الیم) فی الآیة السابقة و(الیم) فی الآیة اللاحقة ـ یُشعر بأنّهما واحد... ومع ملاحظة أنّ أمّ موسى لم تلق موسى فی البحر الأحمر قطعاً، بل ألقته فی النیل طبقاً لما تذکره التواریخ، فیعلم أن غرق فرعون وقومه کان فی النیل «فلاحظوا بدقّة».
1. اقرأ فی سورة یونس، 90، وطه، 77، والشعراء، 63، والدّخان، 24، والآیة مورد البحث أیضاً.
2. اقرأ فی سورة طه، 78، والقصص، 40، والذاریات، 40. 3. «العامرة» هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أی المعمورة.
