فی الآیات المتقدمة والآیات التالیة بعدها التی تذکر قصّة سلیمان والهدهد، إشارة صریحة إلى منطق الطیر، وبعض ما یتمتع به الحیوان من شؤون.
وممّا لا شک فیه أنَّ الطیور کسائر الحیوانات تظهر أصواتاً فی حالاتها المختلفة، بحیث یمکن معرفتها بدقّة، أنّ أیَّ صوت یعبّر عن الجوع؟ وأىّ صوت یعبر عن الغضب؟ وأی صوت یعبر عن الرضا؟ وأىّ صوت یعبّر عن التمنی؟ وأىّ صوت یدعوا الأفراخ إلیه؟ وأىّ صوت یعبر عن القلق والاستیحاش والرعب؟.
فهذه الأصوات من أصوات الطیور، لا مجال للشک والتردد فیها، وکلّنا نعرفها مع اختلاف فی کثرة الإطلاع أو قلّته! إلاّ أنّ آیات هذه السورة ـ بحسب الظاهر ـ تبیّن
موضوعاً أوسع ممّا ذکرناه آنفاً... فالبحث هنا عن نطقها بنحو «معمّى خفیّ» بحیث ینطوی على مسائل دقیقة، والبحث عن تکلمّها وتفاهمها مع الإنسان... وبالرغم من أنّ هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى المسائل المختلفة التی کتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصیة فی شأن الطیور، لا یکون الموضوع عجیباً.
فنحن نعرف عن ذکاء الطیور مسائل أعجب من هذا.
فبعضها لدیها المهارة فی صنع أعشاشها وبیوتها بشکل أنیق، قد یفوق عمل مهندسینا أحیاناً.
وبعض الطیور تعرف عن وضع أفراخها فی المسقبل، وحاجاتها، وتعمل لها عملاً دقیقاً، بحیث تکون مثار إعجابنا جمیعاً.
وتوقعها لما سیکون علیه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالیة، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع، وقبل أن تسجلها مقاییس الزلازل المعروفة!.
والتعلیمات التی تصدر إلى الحیوانات فی «السیرک» ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاکیة عن ذکائها العجیب.
أعمال النمل وحرکاته العجیبة وتمدنه المثیر.
عجائب حیاة النحل، وما تقوم به من أعمال محیرة.
معرفة الطیور المهاجرة بالطرق الجویّة، وقد تقطع المسافة بین القطبین الشمالی والجنوبی!
خبرة الأسماک فی مهاجرتها الجماعیة فی أعماق البحار.
کل ذلک من المسائل العلمیة المسلّم بها، کما أنّها دلیل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراک أو الغریزة ـ أو ما شئت فسمّه ـ فی هذه الحیوانات!.
وجود الحواس غیر الطبیعیة فی الحیوانات ـ کالرادار للخفاش، وحاسة الشم القویة فی بعض الحشرات، والنظر الحاد عند بعض الطیور، وأمثالها، دلیل آخر على أنّها لیست متخلفة عنّا فی کل شیء!
فمع الأخذ بنظر الاعتبار جمیع ما بیّناه، لا یبقى مجال للعجب من أنّ لهذه الحیوانات تکلماً ونطقاً خاصاً، وأنّها تستطیع أن تتکلم مع الإنسان الذی یعرف، «ألف باءها»... وقد وردت الإشارة فی آیات القرآن إلى هذا المعنى، ومنها الآیة 38 من سورة الأنعام (وما من دابّة فی الأرض ولا طائر یطیر بجناحیه إلاّ اُمم أمثالکم)(1).
وفی الرّوایات الإسلامیة اُمور کثیرة أیضاً، تکشف عن نطق الحیوانات وخاصة الطیور... وحتى أنّه نقل لکلّ «منطقٌ» هو بمثابة الشعار، بحیث یطول المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصیل(2).
ففی روایة عن الإمام أبی عبد الله الصادق(علیه السلام) أنّه قال: قال أمیرالمؤمنین علی(علیه السلام) لابن عباس: «إنّ الله علّمنا منطق الطیر کما علّم سلیمان بن داود ومنطق کل دابة فی برّ أو بحر»(3).