«الدّابة» معناها ما یدب ویتحرک، و«الأرض» معناها واضح.. وخلافاً لما یتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غیر الإنسان... بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع یشمل الإنسان أیضاً، کما نقرأ فی الآیة 6 من سورة هود (وما من دابّة فی الأرض إلاّ على اللّه رزقه)، وفی الآیة 61 من سورة النحل (ولو یُؤاخذ اللّه النّاس بظلمهم ما ترک علیها من دابّة).
وفی الآیة 22 من سورة الأنفال (إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الصّمّ البکم الّذین لا یعقلون).
إلاّ أنّه ـ کما ذکرنا فی تفسیر الآیة آنفاً ـ فإنّ القرآن لا یفصّل فی بیان هذه الکلمة وإنّما یذکرها على إجمالها، فکأنّ البناء کان على الإجمال والإبهام، والوصف الوحید المذکور لها بأنّها تکلم الناس وتمیز المؤمن من غیر المؤمن... إلاّ أنّ هناک کلاماً طویلا فی الرّوایات الإسلامیة وأقوال المفسّرین فی الشأن، ویمکن تلخیص مجموعها فی تفسیرین:
1ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حیوان غیر مألوف ومن غیر جنس الإنسان له شکل عجیب، ونقلوا له عجائب شبیهة بما یخرق العادات والمعاجز!.
هذه الدابة تخرج فی آخر الزمان، وتتحدث عن الإیمان والکفر، وتفضح المنافقین وتسمهم بمیسمها!
2ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوایات الإسلامیة الواردة فی هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرک فعّال! وواحد من أفعاله الأصلیة تمییز المؤمنین عن المنافقین ووسمهم.. حتى أنّه یستفاد من بعض الرّوایات أنّ معه عصا موسى(علیه السلام) وخاتم سلمیان.. ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز، وخاتم سلیمان رمز للحکومة والسلطة الإلهیة! فإذاً هذا الإنسان رجل قویّ ذو سلطة وهیمنة!
وقد جاء فی حدیث عن «حذیفة بن الیمان» عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) فی وصف هذه الدابة
قوله: «لایدرکها طالب ولا یفوتها هارب، فتسم المؤمن بین عینیه ویُکتب بین عینیه مؤمن، وتسم الکافر بین عینیه ویکتب بین عینیه کافر، ومعها عصا موسى وخاتم سلیمان»(1).
وقد طبق هذا المفهوم فی روایات کثیرة على «أمیر المؤمنین»(علیه السلام) ففی تفسیر علی بن إبراهیم عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّ رجلا قال لعمار بن یاسر: فی القرآن آیة شغلت بالی وجعلتنی فی شک قال عمار: أیّةُ آیة هی؟ قال: آیة (وإذا وقع القول علیهم أخرجنا لهم دابّة من الأرض تکلّمهم إنّ النّاس کانوا بآیاتنا لا یوقنون) فیقول عمار: والله لا أجلس على الأرض ولا آکل طعاماً ولا أشرب ماءً حتى أریکها، ثمّ یأخذه عمار إلى الإمام علی، وهو یأکل طعاماً فلما بصر به الإمام علی ناداه فجاء عمار عنده وأکل معه!.
فتعجب الرجل ولم یصدق هذا المشهد، إذ کان عمار قد حلف ووعده أن لا یجلس على الأرض ولا یأکل ولا یشرب حتى یریه دابة الأرض، فکأنّه نسی وعده!.
فلمّا قام عمار وودّع علیّاً.. قال له الرجل: عجیب منک أن تقسم بالله أن لا تأکل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض، حتى ترینی دابة الأرض!... فقال له عمار: أریتکها لو کنت تعقل(2).
ونظیر هذا المعنى فی تفسیر العیاشی، إلاّ أنّه ورد اسم «أبی ذر» مکان عمار(3).
وینقل العلاّمة المجلسی(رحمه الله) فی بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: انتهى رسول الله(صلى الله علیه وآله) إلى أمیرالمؤمنین(علیه السلام)وهو نائم فی المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه علیه، فحرّکه برجله، ثمّ قال: قم یا دابة الله، فقال رجل من أصحابه: یا رسول الله أنسمّی بعضنا بعضاً بهذا الإسم؟
فقال لهم: «لا والله ما هو إلاّ له خاصّة وهو الدابة التی ذکر الله فی کتابه (وإذا وقع القول علیهم أخرجنا لهم دابّة من الأرض تکلّمهم أنّ النّاس کانوا بآیاتنا لا یوقنون) ثمّ قال: یا علی إذا کان آخر الزمان أخرجک الله فی أحسن صورة، ومعک میسم تسم به أعداءک»(4).
وبناءً على هذه الرّوایة، فالآیة تنطبق على الرجعة وتنسجم هی والآیة التی تلیها فی الرجعة!.
ویقول المرحوم «أبو الفتوح الرازی» فی تفسیره فی ذیل الآیة: طبقاً للأخبار التی جاءتنا عن طریق أصحابنا، فإن دابة الأرض کنایة عن المهدی «صاحب الزمان (علیه السلام)»(5).
ومع الأخذ بنظر الاعتبار لهذا الحدیث والأحادیث المتقدمة، یمکن أن یستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع، ینطبق على أی إمام عظیم یخرج فی آخر الزمان ویمیز الحق عن الباطل.
وهذا التعبیر الوارد فی الرّوایات الإسلامیة بأنّ معه عصا موسى(علیه السلام) التی هی رمز القوة والانتصار، وخاتم سلیمان(علیه السلام) الذی یرمز للحکومة الإلهیّة، قرینة على أنّ دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.
کما أنّ ما ورد فی الرّوایات الإسلامیة من أنّها تسم المؤمن بین عینیه فیُکتب مؤمناً، وتسم الکافر فیُکتب کافراً ینسجم والقول بأنّها إنسان!.
إضافة إلى ذلک فالتصریح فی القرآن بأنّها تکلم الناس یساعد على هذا المعنى!.
ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق فی الأغلب على غیر الناس، وقد استعملها القرآن فی الأعم من الإنسان وغیره أو فی خصوص الإنسان، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فالقرائن المتعددة الموجودة فی الآیة ذاتها، والرّوایات الکثیرة فی تفسیر الآیة، تدل على أنّ المراد من «دابّة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذکرنا له من خصائص آنفاً، فهو یمیز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والکافر.
إنسان یخرج فی آخر الزمان قبیل یوم القیامة، وهو بنفسه آیة من آیات عظمة الخالق!.
1. تفسیر مجمع البیان، ج 7، ص 234، ذیل الآیة مورد البحث.
2. المصدر السابق.
3. المصدر السابق.
4. بحار الأنوار، ج 53، ص 52. 5. تفسیر روح الجنان، ج 8 ص 423.
