لقد استمعتم إلى منطق صالح المتین والمحب للخیر، مع قومه المضلین ـ فی الآیات المتقدمة ـ والآن لنستمع إلى جواب قومه فی هذه الآیات.
إنّهم واجهوه بکلام خشن و(قالوا إنّما أنت من المسحّرین) فلذلک فقدت عقلک وتتکلم بکلمات غیر موزونة ولا معقولة.
ثمّ بعد هذا کله (ما أنت إلاّ بشر مثلن) وکل عاقل لا یبیح لنفسه أن یطیع إنساناً مثله (فأت بآیة إن کنت من الصّادقین) لکی نؤمن بک ونتبعک.
کلمة (المسحّر) مشتقّة من (السحر) ومعناها المسحور، أی المصاب بالسحر، إذ کانوا یعتقدون أنّ السحرة کانوا عن طریق السحر یعطلون عمل العقل، وهذا القول لم یُتّهم به النبیّ صالحاً فحسب، بل اُتّهم به کثیر من الأنبیاء، حتى أنّ المشرکین اتّهموا نبیَّنا محمّد(صلى الله علیه وآله)به فقالوا: (إن تتّبعون إلاّ رجلا مسحور)(1). أجَلْ، إنّهم کانوا یرون بمعیار العقل أن یکون الإنسان متوافقاً مع البیئة والمحیط، فیأکل الخبز ـ مثلا ـ بسعر یومه، ویطبّق نفسه على جمیع المفاسد... فلو أنّ رجلا مصلحاً إلهیّاً دعا الناس للقیام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عَدُّوهُ ـ بحسب منطقهم ـ مجنوناً «مسحّراً».
وهناک احتمالات اُخر فی معنى «المسحّرین»، صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها...
وعلى کل حال فإنّ هؤلاء المعاندین من قوم صالح، طلبوا منه معجزةً لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحُجة الواهیة، وعلى نبیّهم أن یُتم الحجة علیهم، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ قال: (هذه ناقة لها شرب ولکم شرب یوم معلوم).
و «الناقة» معروفة عند العرب، وهی أنثى الجمَلِ، والقرآن لم یذکر خصائص هذه الناقة التی کان لها حالة إعجازیة، إلاّ أنّه ذکرها بنحو الإجمال... لکننا نعرف أنّها لم تکن ناقة کسائر النیاق الطبیعیة، فکما یقول جماعة من المفسّرین: کانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحیث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنّها کانت تشرب ماء الحیّ فی یوم، والیوم الآخر لأهل الحی «أو القریة» وهکذا دوالیک... کما أشارت الآیة آنفة الذکر إلى هذا المعنى، ووردت الإشارة إلى هذا المعنى فی الآیة 28 من سورة القمر أیضاً.
وقد ذکر المفسّرون لها خصائص اُخر(2).
وعلى کل حال، کان على صالح(علیه السلام) أن یُعلمَهُم أنّ هذه الناقة ناقة عجیبة وخارقة للعادة، وهی آیة من آیات عظمة الله المطلقة فعلیهم أن یَدَعوها على حالها، وقال: (ولا تمسّوها بسوء فیأخذکم عذاب یوم عظیم).
وبدیهی أنّ المترفین قوم صالح المعاندین کانوا یعلمون أن یقظة الناس ستؤدّی إلى الإضرار بمنافعهم الشخصیة فتآمروا على نحر الناقة: (فعقروها فأصبحوا نادمین)(3) لأنّهم رأوا أنفسهم قاب قوسین من العذاب الإلهی.
ولما تجاوز طغیانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غیر مستعدین لقبول الحق، اقتضت إرادة الله ومشیئته أنّ یطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فأخذهم العذاب).
وکما نقرأ فی الآیة 78 من سورة الأعراف، والآیة 67 من سورة هود، ما جاء عن عذاب الله لهم إجمالا... أنّ الأرض زُلزلت من تحتهم لیلا، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الرکب فما أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصیحة، فاهتزت حیطانهم وهوت علیهم فأماتتهم جاثمین على حالهم ففارقوا الدنیا بحال موحشة رهیبة!
ویقول القرآن فی ختام هذه الحادثة ما قاله فی ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهیم(علیه السلام)، فیعبّر تعبیراً بلیغاً موجزاً یحمل بین ثنایاه عاقبة أولئک الظالمین: إنّ فی قصة قوم صالح، وفی صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القویم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانکارهم للمعجزة البیّنة، والمصیر الأسود الذی آلو إلیه دروس وعبر: (إنّ فی ذلک لآیة وماکان أکثرهم مؤمنین).
أجلْ، لیس لأحد أن یغلب ربّه; فما فوق قوته من قوّة!! وهذه القوّة وهذه القدرة العظیمة لا تمنع أن یرحم أولیاءه، بل أعداءه أیضاً: (وإنّ ربّک لهو العزیز الرّحیم)(4)