واستدل للقاعدة أیضاً بقوله تعالى: (أحلَّ اللهُ البَیعَ وَحَرَّمَ الرِّب)(1).
وصدر الآیة یدلّ على أن قیام المرابین فی الحشر کقیام المصروع ومن مسّه الشیطان بالجنون، لا یقدرون على المشی ویتخبطون فیه، کما أن قیامهم فی الدنیا أیضاً کذلک، فلهم جنون جمع الثروات من أی طریق، ولو بظلم أحوج الناس وافقرهم، وما هناک تجسم لما هنا.
ثم تقول الآیة: إنّ عذابهم هذا ناش عن قولهم «إنّما البیعُ مِثْلُ الرِبَا» زعماً منهم أنّ کلیهما تجارة عن تراض من الطرفین، فما الفرق بین معاملة ومعاملة؟ ثم یجیب القرآن عنه بأنّه أی فرق أوضح من أن الله «أحل البیع» و «حرم الربا» وفعل الله مشحون بالحکم والمصالح العالیة.
وهذه المصالح أیضاً لا تخفى على الخبیر إجمالا، فالانسان العاقل إذا نظر بعین البصیرة یرى الفرق العظیم بینهما، فالبیع فیه نفع للبایع والمشتری فی الغالب، بینما الربا فیه ضرر على المدین ونفع للدائن دائماً، ویترتب علیه استثمار الناس، وحلول الأزمات الاقتصادیة، وتکریس العداوة والبغضاء، وترک اصطناع الناس المعروف «وهو القرض الحسن» کما ورد فی الحدیث، ومفاسد عظیمة اُخرى لا تخفى.
هذا ومعنى الحلیة هنا إمّا الحلیة التکلیفیة بالنسبة إلى ما یستفاد من البیع من الأموال، أو الحلیة الوضعیة التی من آثارها الحلیة التکلیفیة.
والثانی أظهر، والاستدلال بالآیة لأصالة اللزوم فی البیوع على الثانی ظاهر لا غبار علیه، لأنّ هذه الحلیة بمعنى نفوذ أمر البیع وامضائه على ما عند العقلاء، وقد عرفت أنّ بنائهم على اللزوم حتى فی المعاطاة، فلا یجیزون انفراد أحد الطرفین بالفسخ، وقول الشارع «أحل الله البیع» امضاء له.
والإشکال علیه: بأنّه من قبیل التمسک بالعام فی الشبهات المصداقیة، قد عرفت الجواب عنه،وأنّ نفس إمضاءالبیع بماعندهم من الأحکام ینفى احتمال تأثیرالفسخ.
هذا والذی یوجب الإشکال فی الاستدلال بها أمر آخر، وهو أن الآیة لیست فی مقام البیان من ناحیة حلیة البیع مطلقاً، بل فی مقام بیان الفرق بین البیع والربا إجمالاً، وهذا کقول القائل: إنّ ذبیحة المسلم حلال وذبیحة الکافر حرام، فی جواب من یسأل عنهما، ومن الواضح أنّه لا اطلاق فیه من سائر الجهات، فلو شککنا فی اعتبار الاستقبال أو البسملة فی الذبیحة فلا یمکن نفیهما عنها بهذا الاطلاق.