بعد أن تحدّث القرآن عن قصّة قوم نوح، أشار إلى أقوام اُخرى جاءت بعدهم، وقبل النّبی موسى(علیه السلام) حیث یقول: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قروناً آخرین) لأنّ هذا أمر الله وسنّته فی خلقه، فالفیض الإلهی لا ینقطع عن عباده فلو سعى جماعة للوقوف فی وجه مسیرة التکامل الإنسانی للبشریة لمحقهم ودفع هذه المسیرة إلى أمام.
ولهذه الأقوام تأریخ معیّن وأجل محدود (ما تسبق من اُ مّة أجلها وما یستأخرون) فلو صدر الأمر الحتمی بنهایة حیاتهم فسیهلکوا فوراً، دون تأخیر لحظة أو تقدیم لحظة.
«الأجل» بمعنى العمر ومدّة الشیء، کأن نقول: أجل هذا الصکّ ثلاثة أشهر، أی إنّ مدّته تنتهی بعد ثلاثة أشهر، أو إلى أجل مسمّى أی إلى تاریخ محدّد.
وکما قلنا سابقاً فالأجل نوعان: «المحتّم» و«المشروط»، فالأجل المحتّم انتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغییر فیه. أمّا الأجل المشروط فیمکن أن یتغیّر حسب تغیّر الظروف فیزداد أو ینقص، وقد تحدّثنا عن ذلک سابقاً بإسهاب(1).
وعلى کلّ حال، فإنّ الآیة السابقة تشیر إلى «الأجل المحتّم».
وتکشف الآیة التالیة حقیقة استمرار بعث الأنبیاء عبر التاریخ بالدعوة إلى الله حیث تقول: (ثمّ أرسلنا رسلنا تتر).
کلمة «تترا» مشتقّة من «الوتر» بمعنى التعاقب، و«تواتر الأخبار» تعنی وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها یتیقّن الإنسان بصدقها، وهذه الکلمة مشتقّة فی الأصل من «الوتر» بمعنى حبل القوس حیث یتّصل الحبل بالقوس من جهتیه ویقع خلفه لیقرب رأسی القوس (ومن حیث الترکیب فإنّ کلمة «تترا» فی الأصل «وترا» تبدّلت الواو فیه تاءً).(2)
وعلى کلّ حال فإنّ معلّمی السّماء، کانوا یتعاقبون فی إرشاد الناس، إلاّ أنّ الأقوام المعاندة کانوا یواصلون الکفر والإنکار، فإنّه: (کلّ ما جاء اُ مّة رسولها کذّبوه).
وعندما تجاوز هذا الکفر والتکذیب حدّه وتمّت الحجّة علیهم. (فاتبعنا بعضهم بعض).
أی أهلکنا الاُمم المعاندة الواحدة بعد الاُخرى ومحوناهم من الوجود.
وقد تمّ محوهم بحیث لم یبق منهم سوى أخبارهم یتداولها الناس (وجعلناهم أحادیث). إشارة إلى أنّ کلّ اُمّة تتعرّض للهلاک، ویبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناک، وأحیاناً لا یبقى منهم أىّ أثر. وهذه الاُمم المعاندة والطاغیة کانت ضمن المجموعة الثّانیة(3).
وتقول الآیة فی الختام، کما ذکرت الآیات السابقة (فبعداً لقوم لا یؤمنون) أجل، إنّ هذا المصیر نتیجة لعدم الإیمان بالله، فکلّ مجموعة لا إیمان لها، معاندة وظالمة، تبتلى بهذا المصیر، فتمحق بشکل لا یبقى إلاّ ذکرها فی التاریخ وأحادیث الناس.
وهؤلاء لم یکونوا بعیدین عن رحمة الله فی هذه الدنیا فحسب، بل بعیدون عن هذه الرحمة فی الآخرة أیضاً، لأنّ تعبیر الآیة جاء عامّاً یشمل الجمیع.