أشارت الآیة السابقة إلى المؤمنین وطوائف مختلفة من الکفّار، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول: (هذان خصمان اختصموا فی ربّهم ) (1) أی أنّ الخصام بین مجموعتین، هما: طوائف الکفّار الخمس من جهة، والمؤمنون الحقیقیّون من جهة اُخرى، وإذا تفحّصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بین الأدیان فی ذات الله تعالى وصفاته، وهو یمتدّ إلى الخلاف فی النبوّة والمعاد، لهذا لا ضرورة إلى القول بأنّ الناس مختلفون فی دین الله، إذ إنّ أساس الخلاف وجذوره یعود إلى الخلاف فی توحیده تعالى فقط. فجمیع الأدیان قد حرّفت، والباطل منها قد إختلط بنوع من الشرک، وبدت معالمه فی جمیع إعتقادات أصحاب هذه الأدیان.
ثمّ تبیّن الآیة أربعة أنواع من عقاب الکافرین المنکرین لله تعالى بوعی منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآیة: (فالذین کفروا قطّعت لهم ثیاب من نار ) ویمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذی اُعدّ لهم من قطع من نار، أو کنایة عن إحاطة نار جهنّم بهم من کلّ جانب.
ثمّ (یصبّ من فوق رؤوسهم الحمیم ) (2) أی یصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حمیم النّار، وهذا الماء الحارق الفوّار ینفذ إلى داخل أبدانهم لیذیب باطنها وظاهرها (یصهر به ما فی بطونهم والجلود ) (3).
وثالث نوع من العقاب هو (ولهم مقامع من حدید ) (4) أی اُعدّت لهم أسواط من الحدید المحرق.
والرابع: (کلّما أرادوا أن یخرجوا منها من غمّ اُعیدوا فیها وذوقوا عذاب الحریق ) أی کلّما أرادوا الخروج من جهنّم والخلاص من آلامها وهمومها اُعیدوا إلیها، وقیل لهم ذوقوا عذاب الحریق.
وأوضحت الآیات التالیة وضع المؤمنین الصالحین، مستخدمة اُسلوب المقارنة، لتکشف بها عن وضع هاتین المجموعتین، وهنا تستعرض هذه الآیات خمسة أنواع من المکافئات للمؤمنین: (إنّ الله یدخل الذین آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجری من تحتها الأنهار ).
فخلافاً للمجموعة الاُولى الذین یتقلّبون فی نار جهنّم، نجد أنّ الذین آمنوا وعملوا الصالحات یتمتّعون بنعیم ریاض الجنّة على ضفاف الأنهر وهذه هی المکافأة الاُولى، وأمّا لباسهم وزینتهم فتقول الآیة: و(یحلّون فیها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فیها حریر ) (5).
وهاتان مکافأتان یمنّ الله بهما کذلک على عباده العالمین فی الجنّة، یهبهم أفخر الملابس التی حرموا منها فی الدنیا، ویحلّیهم بزینة الأساور التی منعوا عنها فی الحیاة الاُولى، لأنّها کانت تؤدّی إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتکون سبباً لحرمان الآخرین وفقرهم، أمّا فی الجنّة فینتهی هذا المنع ویباح للمؤمنین لباس الحریر والحلی وغیرها، وبالطبع ستکون للحیاة الاُخرویة مفاهیم أسمى ممّا نفکّر به فی هذه الدنیا الدنیّة، لأنّ مبادىء الحیاة ومدلولها یختلفان فی الدنیا عمّا هی فی الآخرة (فتأمّلوا جیّداً).
وأخیراً الهبة الرّابعة والخامسة التی یهبها الله للمؤمنین الصالحین ذات سمة روحانیة (وهدوا إلى الطیب من القول ) حدیث ینمی الروح. وألفاظ تثیر حیویة الإنسان، وکلمات ملؤها النقاء والصفاء التی تبلغ بالروح درجة الکمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، (وهدوا إلى صراط الحمید ) (6) هکذا یهدون إلى طریق الله الحمید، الجدیر بالثناء، طریق معرفة الله والتقرّب المعنوی والروحی إلیه، سبیل العشق والعرفان.
حقّاً إنّ الله یهدی المؤمنین إلى هذا الطریق الذی ینتهی إلى أعلى درجات اللذّة الروحیّة.
ونقرأ فی حدیث رواه علی بن إبراهیم (المفسّر المعروف) فی تفسیره، أنّ القصد من «الطیب من القول» التوحید والإخلاص ویعنی «الصراط الحمید» الولایة والإقرار بولایة القادة الربانیّین (وبالطبع هذا أحد المعانی الواضحة للآیة).
کما یستنتج من التعابیر المختلفة الواردة فی الآیات السابقة وفی سبب نزولها أنّ هناک عذاباً عسیراً صعباً ینتظر مجموعة خاصّة من الکفّار الذین یعاندون الله ویحاولون تضلیل الآخرین، إنّهم أفراد من قادة الکفر کالذین تقدّموا فی معرکة بدر لمبارزة علی (علیه السلام) وحمزة بن عبدالمطّلب وعبیدة بن الحارث.