بعد تجسید القرآن الکریم فی الآیات السابقة حادثة ولادة المسیح (علیه السلام)بصورة حیّة وواضحة جدّاً، انتقل إلى نفی الخرافات وکلمات الشرک التی قالوها فی شأن عیسى، فیقول: (ذلک عیسى بن مریم ) خاصّة وأنّه یؤکّد على کونه «ابن مریم» لیکون ذلک مقدمة لنفی بنوّته لله سبحانه.
ثمّ یضیف: (قول الحق الذی فیه یمترون ) (1) وهذه العبارة فی الحقیقة تأکید على صحة جمیع ما ذکرته الآیات السابقة فی حق عیسى (علیه السلام) ولا یوجد أدنى ریب فی ذلک.
أمّا ما یذکره القرآن من أنّ هؤلاء فی شک وتردد من هذه المسألة، فربّما کان إشارة إلى أنصار وأعداء المسیح (علیه السلام)، وبتعبیر آخر: إشارة إلى الیهود والنصارى، فمن جهة شککت جماعة ضالة بطهارة اُمّه وعفّتها، ومن جهة اُخرى شک قوم فی کونه إنساناً، حتى أنّ هذه الفئة قد انقسمت إلى مذاهب متعددة، فالبعض اعتقد بصراحة أنّه ابن الله ـ الابن الروحی والجسمی الحقیقی لا المجازی! ـ ومن ثمّ نشأت مسألة التثلیث والأقانیم الثلاثة.
والبعض اعتبر مسألة التثلیث غیر مفهومة وواضحة من الناحیة العقلیة، واعتقدوا بوجوب قبولها تعبّداً، والبعض الآخر تخبّط بکلام لا أساس له فی سبیل توجیه المسألة منطقیاً. والخلاصة : فإنّ هؤلاء جمیعاً لمّا لم یروا الحقیقة ـ أو أنّهم لم یطلبوها ولم یریدوها ـ سلکوا طریق الخرافات والأساطیر (2)!
وتقول الآیة التالیة بصراحة: (ما کان لله أن یتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنّما یقول له کن فیکون ) وهذا إشارة إلى أنّ اتخاذ الولد ـ کما یظن المسیحیون فی شأن الله ـ لا یناسب قداسة مقام الألوهیة والربوبیة، فهو یستلزم من جهة الجسمیة، ومن جانب آخر المحدودیة، ومن جهة ثالثة الإحتیاج، وخلاصة القول: تنزیل الله سبحانه من مقام قدسه إلى إطار قوانین عالم المادة، وجعله فی حدود موجود مادی ضعیف ومحدود.
الله الذی له من القوّة والقدرة ما إذا أراد فإنّ آلاف العوالم کعالمنا المترامی الأطراف ستتحقق بأمر وإشارة منه، ألا یعتبر شرکاً وانحرافاً عن أصول التوحید ومعرفة الله بأن نجعله سبحانه کإنسان له ولد؟ وأیضاً الولد فی مرتبة ودرجة الأب، ومن نفس طرازه!
إنّ تعبیر (کن فیکون ) الذی جاء فی ثمانیة موارد من القرآن، تجسید حی جدّاً عن مدى سعة قدرة الله، وتسلّطه وحاکمیته فی أمر الخلقة، ولا یمکن تصوّر تعبیر عن الأمر أقصر وأوجز من (کن ) ولا نتیجة أوسع وأجمع من (فیکون ) خاصّة مع ملاحظة «فاء التفریع» التی تعطى معنى الفوریة هنا، فإنّها لا تدل هنا على التأخیر الزمانی ـ بتعبیر الفلاسفة ـ بل تدل على التأخیر الرتبی، أی تبیّن ترتب المعلول على العلّة. دققوا جیداً.