صحیح أنّ مرحلة النضج العقلی للإنسان لها حدّ معیّن عادة، إلاّ أنّه یوجد أفراد استثنائیون بین البشر دائماً، فأىّ مانع من أن یختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما، ویجعلها تتلخص فی سنوات أقل؟ کما أنّ مرور سنة أو سنتین على الولادة أمر محتّم من أجل التمکّن من النطق عادة، فی حین أنّنا نعلم أنّ عیسى (علیه السلام) قد تکلّم فی أیّامه الاُولى، وکان کلاماً عمیق المحتوى من شأنه أن یصدر عادة عن أناس کبار فی السن، کما سیأتی فی تفسیر الآیات القادمة إن شاء الله تعالى.
من هنا یتّضح عدم صحة الإشکال الذی طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمّة الشیعة، بأنّه کیف تسلّم بعضهم اُمور الإمامة فی صِغَره؟
نطالع فی روایة عن علی بن أسباط، أحد أصحاب الإمام الجواد محمّد بن علی النقی (علیه السلام)أنّه قال: رأیت أبا جعفر (علیه السلام) وقد خرج علیّ، فأجدّت النظر إلیه، وجعلت أنظر إلى رأسه ورجلیه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبینا أنا کذلک قعد فقال: «یا علیّ، إنّ الله احتج فی الإمامة بمثل ما احتج به فی النّبوة، قد یقول (وآتیناه الحکم صبیاً )، وقد یقول (حتّى إذا بلغ أشده وبلغ أربعین سنة ) (1) فقد یجوز أن یؤتى الحکمة وهو صبی، ویجوز أن یؤتى الحکمة وهو ابن أربعین» (2).
کما أنّ هذه الإیة تتضمّن جواباً مفحماً لاُولئک المعترضین الذین یقولون: إنّ علی (علیه السلام) لم یکن أوّل من آمن بالنّبی (صلى الله علیه وآله) من الرجال، لأنّه کان ابن عشر سنین فی ذلک الیوم، ولا یقبل إیمان صبی فی العاشرة من عمره!
ولا بأس من ذکر الرّوایة الشریفة عن الإمام علی بن موسى الرض (علیه السلام)، وهی أنّ جماعة من الأطفال قالوا للرض (علیه السلام) أیّام طفولته: إذهب بنا نلعب، قال: «ما للعب خلقنا» وهذا ما أنزل الله تعالى (وآتیناه الحکم صبیّاً ) (3).
یجب الإلتفات إلى أنّ اللعب هنا هو الإشتغال بما لا فائدة فیه، وبتعبیر آخر لا هدف یطلب منه، لکن قد یستتبع اللعب واللهو ـ أحیاناً ـ هدفاً منطقیاً وعقلائیاً ویسعى إلیه، فمن البدیهی أنّ لهذا اللعب حکماً مستثنى.
1. الاحقاف، 15.
2. تفسیر نورالثقلین، ج 3، ص 325.
3. المصدر السابق.
