لقد صدر أمر الجهاد للمسلمین بعد أن ذاقوا ـ کما ذکرت الآیات السابقة ـ مرارة المحنة التی فرضها علیهم أعداء الإسلام الذین آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب إرتکبوه، بل لتوحیدهم الله سبحانه وتعالى.
وقد طمأنت الآیات ـ موضع البحث ـ الرّسول (صلى الله علیه وآله) والمؤمنین وخفّفت عنهم من جهة، وبیّنت لهم أنّ العاقبة السیّئة تنتظر الکفرة من جهة اُخرى، فقالت: (وإن یکذّبوک فقد کذّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود).
أی إذا کذّبک هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد کذّبت رسلها أیضاً، وأضافت: (وقوم إبراهیم وقوم لوط).
وکذلک کذّب أهالی مدینة «مدین» نبیّهم «شعیب»، وکذّب فرعون وقومه نبیّهم «موسى» (وأصحاب مدین وکذّب موسى).
وإنّ هذه المعارضة والتکذیب لن تؤثّر فی روحک الطاهرة ونفسک المطمئنة، مثلما لم تؤثّر فی أنبیاء کبار قبلک ولم تعق مسیرتهم التوحیدیّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.
إلاّ أنّ هؤلاء الکفرة الأغبیاء یتصوّرون إمکانیة مواصلة هذه الأسالیب المخزیة.
(فأملیت للکافرین ثمّ أخذتهم) أجل، أمهل الله الکافرین لیؤدّوا إمتحانهم ولیتمّ الحجّة علیهم فأغرقهم بنِعَمه، ثمّ حاسبهم حساباً عسیراً. (فکیف کان نکیر)(1) ورأیت کیف أنکرت علیهم أعمالهم، وبیّنت لهم أعمالهم القبیحة، لقد سلبت منهم نعمتی وجعلتهم على أسوأ حال... سلبت سعادتهم الدنیویة وعوّضتهم بالموت.
آخر الآیة موضع البحث یبیّن الله تعالى کیفیّة عقاب الکفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة (وکأین من قریة أهلکناها وهی ظالمة) وأضافت الآیة أنّ سقف بیوتها قد باتت أسفل البناء: (فهی خاویة على عروشه).
أی إنّ الواقعة کانت شدیدة حتى أنّ السقوف إنهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف (وبئر معطّلة) فما أکثر الآبار المترعة بمیاهها العذبة، ولکنّها غارت فی الأرض بعد هلاک أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فیها.
(وقصر مشید)(2) أجل ما أکثر القصور المشیدة التی إرتفعت شاهقة وزُیّنت، إلاّ أنّها أضحت خرائب بعد أن هلک أصحابها، والنتیجة إنّهم ترکوا مساکنهم وقصورهم المجلّلة، وأهملوا میاههم وعیونهم التی کانت مصدر حیاتهم وعمران أراضیهم وذهبوا، وکذلک الآبار الغنیّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فیها.