وأین هو؟

وما هو الدلیل لإثبات وجود هذا العالم بین الدنیا والآخرة؟

وهل یکون البرزخ للجمیع، أم لمجموعة معیّنة؟

وأخیراً ماذا سیکون وضع المؤمنین والصالحین والکفّار والمسیئین فیه؟

هذه أسئلة أشارت الآیات والأحادیث السابقة إلیها، لهذا نجیب عنها حسبما یسمح به وضع هذا الکتاب.

تعنی کلمة «البرزخ» فی الأصل الشیء الذی یقع حائلا بین شیئین، ثمّ استعملت لکلّ ما یقع بین أمرین. ولهذا أتت کلمة البرزخ للدلالة على عالم یقع بین عالم الدنیا والآخرة.

والدلیل على وجود عالم البرزخ، أو عالم القبر، أو عالم الأرواح، نجده فی الأدلّة النقلیة، فقد دلّ علیه صریح آیات القرآن أحیاناً وظاهرها أحیاناً اُخرى.

والآیة موضع البحث (ومن ورائهم برزخ إلى یوم یبعثون) ظاهرة فی وجود عالم البرزخ. رغم أنّ البعض رغب فی القول بأنّ کلمة «البرزخ» فی هذه الآیة تعنی العائق والمانع من العودة إلى الدنیا، غیر أنّ هذا المعنى یبدو غریباً، لأنّ عبارة (إلى یوم یبعثون) دلیل على وقوع عالم البرزخ بین الدنیا والآخرة، ولیس بین الإنسان والدنیا.

ومن الآیات التی تصرّح بوجود مثل هذا العالم، الآیات الخاصّة بحیاة الشهداء، مثل (ولا تحسبنّ الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتاً بل أحیاء عند ربّهم یرزقون) الآیة 169 من سورة آل عمران، والخطاب فیها موجّه إلى النّبی(صلى الله علیه وآله). أمّا الآیة 154 من سورة البقرة فإنّها خطاب لجمیع المؤمنین: (ولا تقولوا لمن یقتل فی سبیل الله أموات بل أحیاء ولکن لا تشعرون).

وعالم «البرزخ» لیس للمؤمنین ذوی الدرجة الرفیعة کالشهداء فقط، بل للکفّار الطغاة کفرعون وأعوانه أیضاً، وهذا ما صرّحت به الآیة 46 من سورة المؤمن (النّار یعرضون علیها غدوّاً وعشیّاً ویوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب).

وذکرت آیات اُخرى عالم البرزخ ولکن لا تصل إلى صراحة وظهور الآیات السابقة.

وما یجب الإنتباه إلیه فی موضوع البرزخ هو أنّ الآیات ـ باستثناء الآیة التی نحن بصددها والتی ذکرته بشکل عامّ ـ إستعرضت البرزخ بشکل خاصّ، کما سبق ذکره عن الشهداء أو آل فرعون.

إلاّ أنّ الواضح أنّه لا خصوصیة لآل فرعون لأنّ فی العالم الکثیر من أمثالهم، ولا للشهداء، لأنّ القرآن الکریم اعتبر النبیّین والصدّیقین والصالحین مع الشهداء، کما جاء فی الآیة 69 من سورة النساء (فاُولئک مع الذین أنعم الله علیهم من النبیّین والصدّیقین والشهداء والصالحین).

ولنا حدیث عن کون البرزخ لعامّة الناس أو لفئة منهم، سنورده فی ختام هذا البحث إن شاء الله.

أمّا الرّوایات: فهناک أحادیث کثیرة فی کتب الفریقین الشیعة والسنّة تتحدّث بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ، وعالم القبر، وعالم الأرواح، أی تتحدّث عن العالم الذی یفصل بین الدنیا والآخرة، ومنها:

1ـ جاء فی حدیث معروف ذکر فی الکلمات القصار فی نهج البلاغة أنّ علیّ(علیه السلام) ینما وصل إلى جبانة الکوفة عند عودته من حرب صفین، توجّه إلى القبور ونادى الأموات قائلا: «یاأهل الدیار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة! یاأهل التربة! یاأهل القربة! یاأهل الوحدة! یاأهل الوحشة! أنتم لنا فرط سابق ونحن لکم تبع لاحق! أمّا الدور فقد سکنت، وأمّا الأزواج فقد نکحت، وأمّا الأموال فقد قسّمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندکم»؟

ثمّ إلتفت إلى أصحابه فقال: «أما لو اُذن لهم فی الکلام لأخبروکم أنّ خیر الزاد التقوى»(1).

وبهذا یتّضح عدم إمکان حمل هذه العبارات على المجاز والکنایة، بل هی تخبرنا عن حقیقة وجود حیاة البرزخ بعد الموت، وتمکّن الموتى ـ لو سمح لهم ـ من الحدیث إلینا.

2ـ ونقرأ حدیثاً آخر رواه الأصبغ بن نباتة یذکر فیه أمیر المؤمنین علی(علیه السلام) أنّه خرج من الکوفة، ومرّ حتى أتى الغریّین فجازه، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده، لیس تحته ثوب.

فقال له: قنبر: یاأمیر المؤمنین ألا أبسط ثوبی تحتک؟

قال: لا، هل هی إلاّ تربة مؤمن أو مزاحمته فی مجلسه؟

قال الأصبغ: فقلت: یاأمیر المؤمنین، تربة مؤمن قد عرفناه کانت أو تکون. فما مزاحمته فی مجلسه؟

فقال: «یابن نباتة، لو کشف لکم لرأیتم(2) أرواح فی هذا الظهر حلقاً یتزاورون ویتحدّثون، إنّ فی هذا الظَهر روح کلّ مؤمن، وبوادی برهوت نسمة کلّ کافر»(3).

3ـ وجاء فی حدیث آخر عن الإمام علی بن الحسین(علیه السلام) قوله: «إنّ القبر إمّا روضة من ریاض الجنّة أو حفرة من حفر النّار»(4).

4ـ وروی عن الإمام الصادق(علیه السلام): «البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بین الدنیا والآخرة ... والله ما نخاف علیکم إلاّ البرزخ»(5).

5ـ وجاء فی کتاب الکافی أنّه سئل الإمام: وما البرزخ؟ فأجابه: «القبر من حین موته إلى یوم القیامة»(6).

6ـ وروى الشیخ الکلینی(رحمه الله) فی الکافی عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن الحسن بن محبوب، عن أبی ولاّد الحنّاط، عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: قلت له: جعلت فداک، یروون أنّ أرواح المؤمنین فی حواصل طیور خضر حول العرش، فقال: «لا، المؤمن أکرم على الله من أن یجعل روحه فی حوصلة طیر، ولکن فی أبدان کأبدانهم»(7).

هذا الحدیث یشیر إلى مصیر روح الإنسان، فهی من جهة تشبه هذا الجسم المادّی، إلاّ أنّه یمتلک نوعاً من التجرّد البرزخی.

7ـ کما نقرأ فی حدیث آخر جاء فی کتاب الکافی عن الإمام الصادق(علیه السلام): سألته عن أرواح المؤمنین فأجاب: «فی حجرات فی الجنّة، یأکلون من طعامها ویشربون من شرابها. ویقولون ربّنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا»(8).

8ـ روى صاحب الکافی عن سهل بن زیاد، عن إسماعیل بن مهران، عن درست بن أبی منصور، عن ابن مسکان، عن أبی بصیر، عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «إنّ الأرواح فی صفة الأجساد فی شجرة فی الجنّة تعارف وتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظیم، ثمّ یسألونها: ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: ترکته حیّاً ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلک، قالوا: قد هوى هوى»(9).

تقصد الأحادیث أعلاه بالجنّة والنّار البرزخیتین، ولیس العائدتین لیوم القیامة، والفرق بینهما کبیر.

والأحادیث فی هذا المجال عدیدة، وقد رتّبت فی أبواب مختلفة نشیر إلى قسم منها:

أحادیث تتحدّث عن سؤال القبر وعذابه.

وأحادیث تتناول إتّصال الأرواح مع اُسرها ومشاهدة وضعهم.

أحادیث تتحدّث عن لیلة المعراج وإتّصال النّبی (صلى الله علیه وآله) مع أرواح الأنبیاء والمرسلین.

أحادیث تنصّ على إبتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء کانت طیّبة أمّ سیّئة، بعد موته وأمثاله(10).

1. نهج البلاغة، الکلمات القصار، رقم 130.
2. فی المختصر المطبوع، ص 4، لألفیتم.
3. بحار الأنوار، ج 6، ص 243.
4. تفسیر نورالثقلین، ج 2، ص 553.
5. المصدر السابق.
6. المصدر السابق، ص 554.
7. أصول الکافی حسبما نقله بحار الأنوار، ج 6، ص 268.
8. بحار الأنوار، ج 6، ص 269. 9. بحار الأنوار، ج 6، ص 269.
10. جمع هذه الأحادیث المرحوم السیّد عبدالله شبّر فی کتاب سمّاه «تسلیة الفؤاد فی بیان الموت والمعاد».