الحمد لله، الذی هدانا لمعرفته، وخصّنا بولایته، ووفّقنا لطاعته، والصّلاة والسلام على رسوله الذی منّ الله به على المؤمنین یتلوا علیهم آیاته ویزکّیهم ویعلّمهم الکتاب والحکمة، ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی کانت علیهم.

وعلى أهل بیته، الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیراً، والذین بذلوا أنفسهم فی مرضاته، وصبروا على ما أصابهم فی جنبه، وجاهدوا فی الله حقّ جهاده، حتّى أعلنوا دعوته، وبیّنوا فرائضه، ونشروا شرائع أحکامه، وفقّهوا فی الدین العلماء من شیعتهم، وعلّموهم الکتاب والسنّة، وألقوا إلیهم الاُصول، وفوّضوا إلیهم التفریع.

وصلوات الله تعالى ورحمته ومغفرته، واستغفار رسوله وملائکته على أصحابهم وتلامذتهم المقتصّین آثارهم، والسالکین سبیلهم، والمهتدین بهداهم الذین حملوا مشعل الهدایة فی حالک الأزمنة الدامیّة من تاریخ التشیّع، ورفعوا لواء الدین فی ظروف عصیبة وأجواء قاسیة، وأکرمهم الله تعالى بأن جعل مدادهم أفضل من دماء الشهداء، فسقَوْا بأمطار أقلامهم شجرة الدین وأبقوها طریّة مثمرة، وحرسوا حصون الاجتهاد والفقاهة.

ونحمد الله تعالى أن وفّقنا للانتفاع من موائد فیضهم، والاقتطاف من سنابل بَیْدرهم، واصطفانا من اُلوف مؤلّفة من الخلق، فعرّفنا علماء هذا الجیل وهم:

1 ـ الرجال النبلاء أغصان شجرة الحوزات العلمیّة الإسلامیّة الطیّبة، التی أصلها ثابت، وفرعها فی السماء، تُؤتى اُکلها کلّ حین بإذن ربّها.

2 ـ خبراء الدین، غیر المتهرّبین من قبول المسؤولیّة، الذین لم یستوحشوا فی طریق إعلاء کلمة الحقّ طیلة تاریخ حیاتهم من سُخریة طالبی الدنیا الدنیّة، وضغط الطواغیت الجبابرة، وتکفیر المتحجّرین المتنسّکین، بل تحرکوا فی طریق إبلاغ حقائق الدین ونشر المعارف العالیة لأهل البیت(علیهم السلام) بجهد وجهاد، وصبر وسداد، واستقاموا على طریق حفظ القیم الدینیّة المتکاملة، والدفاع عن نوامیس هذه المدرسة، وموازین الشریعة المحمّدیّة بأفکارهم وأقلامهم وأقوالهم.

3 ـ الفقهاء الملتزمون، الذین حرسوا ثُغور العقیدة بوعی وذکاء، وجاهدوا فی إبطال تحریف المبطلین، ونفی انحراف الغالین بید بیضاء من البرهان والفرقان.

4 ـ المتفکّرون، الذین لم یکتفوا بإکتساب العلوم السائدة فی الحوزات العلمیّة، بل انتهلوا أیضاً ـ عن وعی واسع، وفکر حیّ متحرّک ـ من ینابیع العلوم الاُخرى القدیمة أو الجدیدة، ولم یغفلوا بالاشتغال بزاویة خاصّة وبُعد خاصّ من الدین عن سائر أبعاده وزوایاه.

5 ـ المصلحون المتنوّرون، الذین انتفضوا کعَیْن صافیة فی صحراء إعصار الطواغیت المقْفَرة، ورفدوا أحرار ذلک اللیل المظلم بالأمن والرجاء.

6 ـ الموقنون القائمون بالقسط، الذین یرون إیجاد مجتمع دینی وتشکیل نظام حکم إلهی فی الدرجة الاُولى من واجبات العلماء الملتزمین، و اُمنیّتهم المقدّسة تحقّق الأحکام الناصعة، والمعارف الراقیة للإسلام على أرض الواقع ویموج فی قلوبهم نور الأمل بالمستقبل الباهر الزاهر حول مصیر الاُمّة الإسلامیّة.

7 ـ المحقّقون الذین لم یعیشوا قلّة الهمّة ووهن العزیمة، ولم یدفنوا فی غبار التسامح والتساهل.

8 ـ المتتبّعون المتبحّرون، الذی یعدّون من طالبی الأسرار الإلهیّة والرموز القرآنیّة، والذین تصدّوا لإشباع الحاجات المعنویّة الدینیّة فی المجتمع الاسلامی، ویتحمّلون مسؤولیّة استنباط الأحکام، وتبیین الثقافة الدینیّة فی مجمع الحوزات الإسلامیّة بحیث أدّى حضورهم المستمر (واستعدادهم للمراجعات الدینیّة والجواب عن کلّ مسألة عرضت علیهم) أن یصبحوا علماء ربّانیین وفقهاء متمرّسین کاملا عبقریّاً.

9 ـ المتنزّهون، الذین لا ینظرون إلى المقامات الاعتباریّة والمناصب الحوزویّة إلاّ من جهة أنّها أداة لخدمة الدین والمذهب، ولا یشترون تلک القیم المعنویّة، والمقامات الاُخرویّة، والدرجات والاُجور الموعودة لأصحاب الخدمات القلمیة والبیانیّة، بحُطام الدنیا ومتاعها القلیل الزائل.

10 ـ وأخیراً: النجوم الزاهرة لسماء الفقاهة، الذین صاغوا من أنفسهم رجالا محنّکین لابتعادهم عن الکسل والعُزلة، ومعرفتهم بالزمان ومقتضیاته، مع نضوج الفکر وحسن السلیقة واستقامتها، والدقّة والنظم الإبداع فی العمل مع أهداف سامیّة عالیة وشعور عقلائی رائق فی البیان والکتابة، وهمّة عالیة وعزم راسخ إلهی، ونفس أبیّة قویّة، وحرکة دائبة وجدّ مستمر (وکأنّ أحدهم بعد مضیّ ستّین أو سبعین سنة من عمره المبارک، یعمل ویسعى سعی عدّة أفراد من الطلاّب المجدّین).

إلهی: یامن هو المبدأ لهذه المکارم الکاملة الجمیلة: نسألک أن تعطینا یقظة وانشراح صدر، حتّى لا یحجبنا بعض ما نراه نقصاً فیهم عن مشاهدة أنوار حکمتهم، ولا یحرمنا بعض عثراتهم ـ التی لا یخلو غیر المعصوم منها ـ من کوثر معارفهم البالغة، فانّه لا حکیم إلاّ ذو عثرة(1).

کما انّا نسألک یامالک القلوب والأبصار: أن تهب لنا وفاءً وتأدّباً، حتّى لا نطلق علیهم لساناً هم صیّروه ناطقاً، وقلماً وبیاناً هم علّموه البلاغة(2).

والحقیر الفاقد لأیّة بضاعة یحمدک بکلّ وجوده وأعماق قلبه على أن وفّقته لتقریر حلقة (الدورة الرابعة لخارج الاُصول) من حلقات درس اُستاذ هو بنفسه غُصن من هذه الشجرة الطیّبة، ونجم من هذه المنظومة المضیئة.

فأرجو الله سبحانه أن لا یمنعنا حجاب المعاصرة عن مشاهدة هذه الوجوه المشرقة، ومفاخر المدرسة الجعفریّة، فندرک مکانة هذه النجوم المضیئة ومقاماتهم بعد رحیلهم عن دنیا المعرفة والحکمة، وأفولهم عن سماء العلم والهدایة.

1. عن الرض(علیه السلام) عن آبائه(علیهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): «غریبان: کلمة حکمة من سفیه فاقبلوها، وکلمة سفه من حکیم فاغفروها، فانّه لا حکیم إلاّ ذو عثرة، ولا سفیه إلاّ ذو تجربة». (بحار الأنوار: ج2، ص44).
2. «لا تجعلنّ ذرب لسانک على من أنطقک، وبلاغة قولک على من سدّدک». (نهج ـ حکمة411).