ومن أجل توضیح المراد من هذه الآیة مورد البحث ینبغی الرجوع قلیلاً إلى الوراء وتلاوة الآیات التی سبقتها ثم إلقاء نظرة إجمالیة على مضمون هذه الآیة، ولذلک نکتفی هنا بتفسیر مختصر للآیات 66 إلى 72:
(وَیَقُولُ الاِْنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَیّاً).
جاء فی الروایات أنّ بعض المشرکین العرب جاؤوا إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله)ومعهم عظام متهرئة، ثم فتتوها بأیدیهم حتى تحولت إلى مسحوق، ثم ذروها فی الهواء فأخذتها الریاح فی کل جانب، ثم توجهوا إلى النبی(صلى الله علیه وآله)وقالوا: کیف یحیى الله هذه
الذرات المتناثرة فی الفضاء ویعیدها إلى إنسان کامل، هنا نزلت الآیة المذکورة، ومثل هذا المعنى ورد فی قصّة سورة یس فی شأن نزول الآیة 77 فی آخر هذه السورة.
وهنا نرى أنّ الله تعالى فی مقام الجواب عن هذا السؤال یثیر أمامناً استدلالاً منطقیاً ثم یتحرک على مستوى التهدید بالعذاب الألیم لمن لا ینفع معه منطق الاستدلال ولا یفهم لغة العقل:
(أَوَلاَ یَذْکُرُ الاِْنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ یَکُ شَیْئاً).
هل هؤلاء الأشخاص الذین ینکرون المعاد نسوا خلقهم الأول؟ ألم نخلقهم من تراب؟ إذن فما هی المشکلة فی إعادتهم مرّة أخرى للحیاة؟ إذا سار شخص فی طریق خاص لعدّة مرات، فهل یواجه مشکلة فی مسیره فی المرات اللاحقة، أم یکون مسیره فی المرات الأخرى أیسر وأسهل؟
وعلى هذا الأساس فإنّ اللهـ تعالى کما أنّه خلق الإنسان من تراب، بل فی زمان لم یکن تراب أیضاً وخلق الله التراب وخلق منه آدم(علیه السلام)، ففی یوم القیامة یعیده إلى الحیاة مرّة أخرى ویحیى ذلک التراب مرّة ثانیة، وهذا العمل یعتبر أیسر وأسهل من المرّة الاُولى.
وبعد أن یبیّن القرآن الکریم هذا الاستدلال المنطقی، یتحرک على مستوى التهدید بقوله:
(فَوَرَبِّکَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّیَاطِینَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِیّاً).
«جثیاً» جمع «جاث»(1) ویقال للشخص الذی وقف على رکبتیه ولا یستطیع النهوض والوقوف بشکل کامل، فأحیاناً یشعر الإنسان بالتعب الشدید بحیث یجمع قواه ویجلس على رکبتیه ولا یستطیع النهوض والوقوف على قدمیه، ویقال لمثل هذا الشخص جاث على رکبتیه.
(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ کُلِّ شِیعَة أَیُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِیّاً).
(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِینَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِیّاً).
(وَإِنْ مِّنْکُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا کَانَ عَلَى رَبِّکَ حَتْماً مَّقْضِیّاً).
أجل! فإنّ جمیع أفراد البشر وبدون استثناء یدخلون جهنّم حتى أهل الجنّة.
سؤال: هل بإمکان الدخول إلى جهنّم والخروج منها إلى الجنّة بدون ألم وحرق؟
الجواب: نعم! هذا الأمر ممکن. فلو تصورتم بحراً من النار، ومرّ من خلاله شیء قابل للاشتعال وبسرعة فائقة، فسوف لا یتعرض للاحتراق، ومن هنا فإن الصالحین والمتقین والأنبیاء یمرون من جهنّم إلى الجنّة أیضاً، ولکن سرعة عبورهم شدیدة إلى درجة أنّ نار جهنم لا تمسهم بأی ضرر.
 وعلى ضوء ذلک فإنّ سرعة العبور کلما کانت أبطأ فإنّ نار جهنّم تؤثر فی ذلک الشیء بنفس النسبة، والویل للأشخاص الذین یکون سیرهم فیها بطیئاً جدّاً ویسقطون فی نار جهنّم، ونعوذ بالله من ذلک.
ولیس فقط طریق الجنّة یمرّ من خلال جهنّم فی الآخرة بل إنّ طریق الجنّة فی هذه الدنیا أیضاً زاخر بالمعوقات والموانع والکثیر من التحدیات الصعبة، ولهذا ینقل الإمام علی(علیه السلام) حدیثاً عن نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله)أنّه قال:
«إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَکـارِهِ وَإِنَّ النّـارَ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ»(2).
وعلى هذا الأساس فلا غرابة فی عبورنا إلى الجنّة من خلال جهنّم فی الآخرة.
(ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِینَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِینَ فِیهَا جِثِیّاً).
وبعد أن یدخل الجمیع نار جهنّم، تشمل الرحمة الإلهیّة المتقین الذین تحرکوا فی الدنیا فی خط الطاعة والعبودیة وتنقذهم من جهنّم، وتذر الظالمین یعیشون الذلة والهوان والعذاب فی النار.
 

(1). ضمناً أنّ أحد الصور الفلکیة یقال لها «الجاثی على رکبتیه»; وهذا اسم لمجموعة من النجوم التی تجتمع فی مدار واحد، ویمکن رؤیتها من سطح الأرض على شکل انسان واقف على رکبتیه.
والعجیب أنّ هذه الصور الفلکیة التی کشفها المسلمون واختاروا لها أسماء عربیة، معروفة عند علماء الغرب بهذه الأسماء، وهذا دلیل على أنّ علماء الغرب استفادوا من علوم علماء الإسلام.
(2) . نهج البلاغة، الخطبة 176 .