کان العرب فی الجاهلیة وخاصة فی مکة والمدینة یعزون بتربیة ورضاعة أطفالهم إلى أهالی البادیة والمرضعات فی صحراء الجزیرة العربیة لیملکوا الشجاعة والقدرة البدنیة ویواجهوا التحدیات الصعبة التی یفرضها الواقع والحیاة الخشنة بکامل المثابرة والجدیة، ولکن لم تکن أیة مرضعة مستعدة لحضانة ورضاع محمّد بن عبدالله بن عبدالمطلب، الذی کان یتیماً ومحروماً من نعمة الأب، لأنّ حضانة مثل هذا الطفل الرضیع سوف لا یوفّر للمرضعة أجراً مناسباً على أتعابها. فقد کانت حلیمة السعدیة من قبیلة بنی سعد من جملة المرضعات اللواتی یسکنّ البادیة وسألت أخیراً عن مصیر یتیم عبدالله، وعندما التفتت إلى عدم قبول المرضعات له وإعراضهنّ عن رضاعه، فإنّها وبدافع من الباعث الإلهی فی وجدانها قبلت بإرضاع وحضانة محمد بن عبدالله، وقد اهتمت به وبرعایته کما تهتم بابنها بل أکثر من ذلک، وهذا العمل الصالح لحلیمة السعدیة أدى إلى خلود اسمها فی التاریخ، وفی مقابل ذلک لا نجد اسماً لأیة مرضعة فی التاریخ، ولکنّ اسم حلیمة السعدیة یذکر دائماً فی سیرة نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله)، ویبقى إلى یوم القیامة، ولیس ذلک إلاّ بسبب صدور هذا العمل من حلیمة السعدیة مع نیّتها الخالصة.
مضافاً إلى ذلک فعندما وقعت الحرب بین قبیلة هوازن وبنی سعد وقبائل أخرى من جهة وجیش الإسلام من جهة أخرى وکانت النتیجة لصالح جیش الإسلام وانتصر النبی فی هذه المعرکة، وتمّ أسر الکثیر من رجال ونساء قبیلة حلیمة السعدیة، وفجأة شاهد المسلمون امرأة من هذه القبیلة تتقدم إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله)وبعد أن سلّمت علیه قالت: «أنا یشما بنت حلیمة السعدیة وأختک من الرضاع!» فلما سمع النبی(صلى الله علیه وآله) بذلک قام من مکانه وفرش لها عباءته أمام المسلمین وأخذ یدها وأجلسها على عباءته ثم سألها عن أحوالها وعمّا تریده منه؟ فقالت یشما: «إنّ أفراد قبیلتی قد أضحوا أسرى عندکم، وقد أسر المسلمون نساءنا ورجالنا فأطلب منک أن تطلق هؤلاء الأسرى».
فتوجه النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) إلى أصحابه وقال: إنّ جمیع الأسرى هم ملک لجمیع المسلمین وأنا أرید أن أعتق سهمی من الأسرى من أجل اختی یشما».
فقال المسلمون: نحن تبع لک وبدورنا نعتق سهمنا من هؤلاء الأسرى، وبذلک تمّ تحریر جمیع أسرى قبیلة بنی سعد فی تلک الواقعة.
أجل، فإنّ العمل الصالح الذی قامت به حلیمة السعدیة لیس فقط أدى إلى خلود اسمها فی التاریخ بل إنّه أنقذ قبیلتها من ا لأسر ومنحهم حیاة جدیدة.