إن الله تعالى أقسم فی هذه السورة بالمرئیات وبغیر المرئیات، وبالنسبة للمرئیات وأدواتها فقد تحدّث القرآن فی هذه الآیات عنها، ولکن لم یتحدّث بشی عن غیر المرئیات، فلو قلنا: إنّ غیر المرئیات وما لا نستطیع رؤیته أکثر ممّا نستطیع رؤیته، فلیس کلامنا مجانب للصواب، ونشیر هنا إلى عدّة موارد:
1. إن النور الذی نراه بأعیننا ویمهد الطریق لإمکان رؤیة الأشیاء الأخرى، یتکون من أمواج ذات طول خاص، فلو کانت الأمواج أطول أو أقصر من هذا الحد المعین فلا یمکننا رؤیتها، فی حین أنّها موجودة فی الواقع الخارجی، وعندما تحدث ظاهرة قوس قزح فی السماء فإنّها عبارة عن تجزئة ضوء الشمس إلى سبعة أجزاء وألوان، والقسم الأعلى من قوس قزح باللون البنفسجی، والقسم الأسفل منه باللون الأحمر، ولکن ألا یوجد لون أعلى من اللون البنفسجی وأدنى من اللون الأحمر؟
نعم، إنّ مثل هذه الألوان موجودة ولکننا لا نراها، فنحن لا نرى الأشعة ما فوق البنفسجیة، والأشعة ما دون الحمراء، وربّما یرى الکثیر من الحیوانات والطیور والحشرات هذه الأشعة ولکنّ الإنسان لا یستطیع رؤیتها.
2. إنّ الإنسان لا یستطیع تشخیص وتحدید أمواج الزلزلة ویقف أمامها عاجزاً، ولکنّ بعض الحیوانات تعرف وقت حدوث الزلزلة قبل وقوعها بما لدیها من أجهزة خاصّة لرصد وقوع الزلزلة، ولذلک تحاول الفرار من مکان الزلزلة قبل وقوعها.
3. وهناک أمواج أخرى فی الفضاء المحیط بنا ولکننا لا نراها، وبخاصّة الأمواج الکثیرة المتنوعة فی عصرنا الحاضر، من قبیل أمواج الرادیو، الفضائیات، التلفزیون، فلو کان لدینا جهاز استقبال قوی فیمکننا استقبال آلاف القنوات الفضائیة المختلفة، و هذه الأمواج الکثیرة جدّاً سابحة فی الفضاء ولکنّ أعیننا غیر قادرة على رؤیتها.
4. إنّ الجاذبیة تعتبر من الأمواج المجهولة فی عالم الوجود، ولکنّ آثارها ونتائجها ملموسة، ولکننا لا نراها بأعیننا.
5. أشعة ایکس (X) یستفاد منها لتصویر باطن جسم الإنسان بأجهزة خاصّة، ولکننا لا نستطیع رؤیة ما بداخلنا.
6. هناک أرواح، ملائکة، شیاطین، جن، کلها موجودة فی الواقع الخارجی ولکننا لا نراها.
7. والأعلى من ذلک وجود الذات المقدّسة وهو الله تعالى الذی لا یُرى بأی عین، ولکن لا شک فی وجوده، لأنّ جمیع أجزاء عالم الخلقة تشهد بوجوده، وهناک أشیاء أخرى غیر قابلة للرؤیة، وعلى هذا الأساس فإنّ «ما تبصرون» محدود، و«مالا تبصرون» غیر محدود.
النتیجة أنّ الله تعالى یقسم فی سورة الحاقة بجمیع الأشیاء المرئیة وغیر المرئیة، وفی الحقیقة یقسم بجمیع عالم المخلوقات وبجمیع الکائنات، وهذا القسم مهم جدّاً، ولابدّ أنّه یقصد منه غایة مهمّة جدّاً.