سؤال: لماذا یقسم الله تعالى؟ وما هی حاجته للقسم بحیث إنّ القسم الإلهی فی القرآن یتجاوز 100 مورد تقریباً؟ وهل الأقسام الإلهیّة الواردة فی القرآن الکریم یقصد بها المؤمنون أم المقصود بالخطاب هم الکافرون؟ فلو کان المقصود بالقسم فی هذه الآیات هم المؤمنون، فإنّهم لا یحتاجون للقسم، لأنّهم یتحرکون فی مقام امتثال أوامر الله وأحکامه من موقع الطاعة والإیمان بدون الحاجة إلى القسم، وإن کان المقصود بها هم الکفّار فإنّ القسم بالنسبة لهم لا یکون ذا فائدة، لأنّ الکفّار لا یتحرکون من موقع الطاعة والعبودیة والتسلیم لله تعالى حتى مع القسم.
الجواب: ذکر المفسّرون للأقسام الإلهیّة حکمتین:
أ) إنّ جمیع المسائل والأمور لیست على مستوى واحد من حیث الأهمیّة، فبعضها مهم والبعض الآخر أهم، کما أنّ جمیع الواجبات لیست بمستوى واحد من حیث الوجوب والأهمیّة بل لها مراتب مختلفة.
إنّ جمیع المؤمنین لیسوا على درجة واحدة من الإیمان، بل تتفاوت درجاتهم ومراتبهم الإیمانیة بشکل کبیر، ومن هنا فإنّ الله تعالى إذا أراد أن یبیّن أهمیّة أمر من الأمور أو حکم من الأحکام الشرعیة فإنّه یقرنه بالقسم، وهذا نوع من فصاحة البیان ونمط من البلاغة فی الخطاب، فالمتکلّم مضافاً إلى بیانه وحکمه بوجوب أمر معین، فإنّه یبیّن للمخاطب بذلک القسم أهمیّة هذا الأمر أو الحکم.
مثلا عندما یرید الله تعالى بیان أهمیّة تهذیب النفس ومجاهدة الأهواء والنوازع النفسانیة ویرید إفهام الإنسان بهذه الحقیقة حتى لا یقع فی شراک الأهواء ولا ینزلق فی منزلقات الخطیئة، وبالتالی لا ینسلخ من حقیقة الإنسانیة، فنلاحظ أنّ القرآن الکریم استعرض بیان هذه الحقیقة بتقدیم أقسام متعددة، کالقسم بالشمس وأشعتها وعظمتها، والقسم بالقمر وأنواره الساطعة، والقسم باللیل وظلمته الوادعة، والقسم بضیاء الصباح وبهجته، والقسم بخالق روح الإنسان ونفسه و... أنّ أهل النجاة والفلاح یوم القیامة هم الأشخاص الذین یسلکون فی حیاتهم مسلک تهذیب النفس وتصفیتها من الشوائب والرذائل ویتحرکون فی خط المسؤولیة والعبودیة والانفتاح على الله. أجل، إنّ الله تعالى ومن أجل بیان أهمیّة وعظمة جهاد النفس أقسم أحد عشر مرّة لتأکید هذا الموضوع.
وفی مورد آخر ومن أجل إلفات نظر الإنسان لأهمیّة القلم وأنّ هذه الأداة الصغیرة والبسیطة بإمکانها أن تعمل على ازدهار حضارة مجتمع بشری أو تخریبها ومحوها، فإنّه یقسم بالقلم وبالکتابة التی یکتبها الإنسان بواسطة القلم.
ومن هنا فإنّ إحدى الحِکم والغایات للأقسام الإلهیّة فی القرآن الکریم، بیان درجة أهمیّة الشیء الذی یقع متعلقاً للقسم.
ب) الحکمة الأخرى فی الأقسام الإلهیّة بیان أهمیّة وقیمة الموجودات والکائنات التی وقعت مورد القسم، مثلاً، الله تعالى فی المثال المذکور آنفاً یرید من جهة، بیان أهمیّة جهاد النفس، ومن جهة أخرى، یحث الإنسان على التفکر فی عظمة هذه المخلوقات: الشمس والقمر، واللیل والنهار، وعظمة السماوات وارتفاعها والأرض وسعتها، النفس الإنسانیة وما یجری فی أعماقها، وبالتالی تزداد معرفة الإنسان بخالق هذه الموجودات والکائنات من خلال معرفة مخلوقاته ودقّة صنعه، وهذا الأمر یفضی بالإنسان إلى سلوک طریق الکمال المعنوی والسیر فی خط الطاعة والعبودیة.
وفی الحقیقة إنّ الأقسام القرآنیة من هذه الجهة تعتبر مفتاحاً لجمیع العلوم والمعارف لأنّها تدفع بالإنسان لشحذ طاقاته وتفعیل قدراته الفکریة للتدبر فی دقّة صنع الکائنات والمخلوقات التی أقسم الله بها فی کتابه الکریم، ومن هذه القناة تنفتح له أبواب مهمّة وتنکشف له أسرار دقیقة وعلوم جدیدة.
قبل مدّة نقل لی أحد الأطباء الحاذقین ـ ویفتح کلامه هذا نافذة جدیدة على عظمة عالم الخلقة ـ فقال:
1. ذهبت إلى أحد معارض الکتاب، وهناک لفت نظری کتاب من ثمانیة أجزاء یتضمن ستة آلاف صفحة(1) وکان موضوع الکتاب المکوّن من ستة آلاف صفحة یتحدّث عن أصغر ذرة حیّة فی بدن الإنسان، أی (الخلیة)، والخلایا فی البدن بمثابة الطابوق (الآجر) للبناء، وعادة لا تُرى إلاّ باستخدام المجهر.
إنّ هذا الموجود المجهری یتضمن أسراراً عجیبة بحیث إنّ هذا المؤلف کتب عنه ستة آلاف صفحة. أجل فکل خلیة لوحدها حاویة لجمیع صفات الإنسان، وکأنّها تملک جمیع أعضاء بدن الإنسان من العین والقلب والاُذن والمعدة وأمثال ذلک، بالرغم من صغر حجمها.
وفی هذا العصر تعلّم الإنسان صناعة الاستنساخ، بمعنى أنّ العلماء یأخذون خلیة من بدن الإنسان ویعملون على تنمیتها فی المختبرات الطبیة وبواسطة الأجهزة الدقیقة، ثم یضعونها فی رحم امرأة بدون تلقیحها بالنطفة، وتمضی هذه الخلیة فی النمو وتطوی مراحل متعاقبة ثم تتحوّل إلى إنسان کامل، ألا یدعو خلق هذه الخلیة الزاخرة بالأسرار العجیبة للتفکّر والتدبر فی هذا العلم العجیب ونظمه الدقیق؟ ألا یفتح هذا التدبر والتفکّر نوافذ جدیدة لمعرفة أسرار الخلقة والإطلاع على أسرار الکون العجیبة؟
2. وقد أجرى العلماء والباحثون مطالعات وتجارب واسعة بالنسبة لعوامل وأسباب الحکّة فی الجلد، فوجدوا لحدّ الآن تسعمائة عامل وسبب لذلک!
هذا العالم العجیب الملیء بالأسرار بحیث إنّ ظاهرة صغیرة من ظواهره تتضمن کل هذه العوامل الکثیرة، وعندما کان الله تعالى یقسم بنفس الإنسان وبالشمس والقمر والنجوم وأمثالها کان البشر یطوی سلّم العلم فی مراحله الابتدائیة، وقد أراد الله تعالى بهذه الأقسام تحریک ذهن الإنسان وإلفات نظره إلى هذه الموجوات لیفتح له أبواباً جدیدة لمعرفة عجائب الخلقة. وأکرر أنّ ذلک مشروط بأن لا یمرّ الإنسان بهذه الظواهر الطبیعیة والعجائب فی عالم الخلقة مرور الکرام، بل یتفکّر فی أمرها ویتدبر فی شؤونها.
 

(1) . عنوان الکتاب المذکور «سل» ومؤلفه العالم «هوک». وللمزید من التفاصیل راجع کتاب تاریخ البیولوجیا، ص335، لمؤلفه جاردنر.