وطبقاً لما ورد فی بعض الروایات عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّ جمیع ما فی الدنیا ومن ذلک أعمال الإنسان ونیّاته وکلماته، ستتعرض للوزن یوم القیامة، فذلک المیزان قادر على وزن أعمال ونیّات الإنسان، ولکن کیفیة وزن هذه الأمور غیر معلوم لدینا، وطبعاً فإنّ وزن الأشخاص بمعنى تعیین ثقل أجسامهم، لا یکاد یخفى على أحد، ولکن المهم بیان وزن ومقدار الأعمال الصالحة والطالحة، ومن هذه الجهة تارة یکون الإنسان ثقیلاً فی المیزان وتارة یکون خفیفاً (لا یزن جناح بعوضة) لأنّ مثل هذا الشخص فارغ من حیث العمل الصالح وفقیر من حیث الباطن ومعدم من حیث الخیرات، وبالعکس نرى بعض الأشخاص الذین هم حسب الظاهر خفیفون فی المیزان المادی، إلاّ أنّهم فی میزان الأعمال ثقیلون ویتجاوز وزنهم المعنوی عدّة أضعاف وزنهم المادی، لأنّهم یختزنون خلوص النیّة، وطهارة العقیدة، وصفاء القلب، وصلاح العمل، وهنیئاً لهؤلاء الأشخاص الذین یقول عنهم القرآن الکریم:
(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ * فَهُوَ فِی عِیشَة رَّاضِیَة)(1).
وفی ذلک الیوم فإنّ جمیع دماء الشهداء على امتداد المسار التاریخی للبشریة منذ بدایة خلق آدم وإلى قیام القیامة والتی سفکت فی سبیل الدفاع عن الحریة والدفاع عن المظلومین وطلب رضا الله تعالى، توضع فی کفة من المیزان، وتوضع فی الجانب الآخر أقلام العلماء على امتداد التاریخ الفکری للبشریة، والذین کتبوا بأقلامهم ما یرضی الله تعالى ویحقق للإنسانیة طموحاتها وتطلعاتها فی خط العدل والحق والرسالة، فتثقل کفة أقلام هؤلاء العلماء على کفة دماء الشهداء(2)، لماذا؟
فی مقام الجواب عن هذا السؤال یمکن الاستدلال بالأدلة التالیة:
1. لولا أنّ أقلام العلماء تمثّل رصیداً لدماء الشهداء وبمثابة القاعدة المتماسکة والأساس المحکم الذی ینطلق منه الشهداء لتسجیل أعمال الشجاعة والتضحیة فی ثنایا التاریخ، فسوف تتعرض هذه الدماء الزاکیة إلى النسیان وستلقى فی زاویة بعیدة من التاریخ البشری، ومن هنا فإنّ القلم هو الذی یؤدی إلى خلود دم الشهید، ولذلک فهو أفضل.
2. إنّ أسلحة الشهید تواجه أبدان العدو وتعمل على إزاحة العدو فیما یمثّل من وجود بدنی ومادی یقف فی طریق الحق والعدالة، وأمّا قلم العالم فیواجه روح العدو وفکره ومخططاته، فکما أنّ الروح أفضل من الجسم، فما کان یواجه الروح فهو أفضل ممن یواجه البدن.
3. إن القلم یعتمد على آلیات المنطق والاستدلال، والسیف یعتمد على آلیات العنف والقوة، فالبرغم من أنّ الاستمداد من عناصر القوّة فی مقابل قوى الاستکبار والاستعمار، التی لا تفهم سوى منطق القوّة، لازم وضروری، ولکن على أیة حال فإنّ رجحان منطق الاستدلال والعقل على منطق القوّة، یعتبر أمراً بدیهیاً.
4. إنّ دم الشهید محدود بمنطقة خاصّة ومکان معین، وأمّا شعاع القلم فغیر محدود بإطار خاص ومکان معین. بل یمتد إلى آفاق واسعة من الزمان والمکان فی المجتمعات البشریة.
ولو کنّا فی مقام المقایسة والمقارنة بین جمیع ما کتب حول بیان أهمیّة العلم والمعرفة والقلم من قبل العلماء والمفکرین فی مختلف المجتمعات والمذاهب الفکریة من جهة، وبین الروایة المذکورة من جهة أخرى، فلا شک فی أنّ الروایة المذکورة ستترجح على کل ما قیل فی هذا الشأن، لأنّها ترسم لوحة رائعة عن مکانة القلم ومنزلة العلم والعلماء بشکل خاص.
ویتبیّن ممّا تقدّم من أهمیّة القلم ومکانته الخاصّة، أنّ هذا المعنى إنّما یکون صحیحاً فیما لو تحرک القلم فی خط الرسالة والمسؤولیة، فلو تحرک القلم فی خط الانحراف والضلالة فسوف تترتب علیه آثار وخیمة ونتائج سلبیة کثیرة، وعلیه فنحن جمیعاً مسؤولون أمام هذین الجانبین للقلم فیما ینتجه من معطیات إیجابیة فیما إذا سار فی خط الحق والرسالة، وفیما یثیر من مشکلات وأخطار فیما إذا تحرک فی خط الانحراف والباطل، ونعمل على تقویة وتفعیل وترشید النوع الأول من الحرکة الإیجابیة، ونتحرک فی خط الاعتراض والبراءة والإنکار لحرکة القلم فی الخط الثانی.
 

(1) . سورة القارعة، الآیتان 6 و 7.
(2) . بحار الأنوار، ج 7، ص 226، ح 144 .