إدّعاءات جوفاء:

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
الأمثل 10
سورة الأحزاب / الآیة 4 ـ 6 بحث

تعقیباً للآیات السابقة التی کانت تأمر النّبی(صلى الله علیه وآله) أن یتّبع الوحی الإلهی فقط، ولا یتّبع الکافرین والمنافقین، تعکس هذه الآیات التی نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه یدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطیل، وقد ذکرت الآیة الاُولى من الآیات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلا: (ما جعل الله لرجل من قلبین فی جوفه).

وقد ذکر جمع من المفسّرین فی سبب نزول هذا القسم من الآیة: أنّ رجلا فی الجاهلیة یدعى «جمیل بن معمّر» کان عجیب الحفظ، وکان یدّعی أنّ فی جوفه قلبین کلّ منهما أفهم من محمّد(صلى الله علیه وآله)، ولذلک کان مشرکو قریش یسمّونه: ذا القلبین!

فلمّا کان یوم بدر وهزم المشرکون، وفیهم جمیل بن معمّر، تلقّاه أبو سفیان وهو آخذ

بیده إحدى نعلیه، والاُخرى فی رجله، فقال له: یاأبا معمّر، ما حال الناس؟ قال: إنهزموا، قال: فما بالک إحدى نعلیک فی یدک، والاُخرى فی رجلک؟ فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلک، وکنت أظنّهما فی رجلی، فعرفوا یومئذ أنّه لم یکن له إلاّ قلب واحد لما نسی نعله فی یده(1). بل لم یکن یعقل ویفهم حتى بمقدار ذی القلب الواحد.

والمراد من «القلب» فی مثل هذه الموارد «العقل».

وعلى کلّ حال فإنّ اتّباع الکفّار والمنافقین، وعدم اتّباع الوحی الإلهی یدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافیة.

وبغضّ النظر عن ذلک، فإنّ للجملة معنى أعمق، وهو: أنّه لیس للإنسان إلاّ قلب واحد، ولا یحتوی هذا القلب ولا یختزن إلاّ عشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ اُولئک الذین یدعون إلى الشرک والآلهة المتعدّدة ینبغی أن تکون لهم قلوب متعدّدة، لیجعلوا کلّ واحد منها بیتاً لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصیّة الإنسان السلیم شخصیة واحدة، وخطّه الفکری واحد، ویجب أن یکون واحداً فی وحدته وإختلاطه بالمجتمع، فی الظاهر والباطن، فی الداخل والخارج، وفی الفکر والعمل، فإنّ کلّ نوع من أنواع النفاق و إزدواج الشخصیة أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبیعته.

إنّ الإنسان بحکم امتلاکه قلباً واحداً یجب أن یکون له کیان عاطفی واحد، وأن یخضع لقانون واحد.

ولا یدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد.

ویسلک طریقاً معیّناً فی حیاته، بأن یتآلف مع فریق واحد، ومجتمع واحد، وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفیة والانحراف عن المسیر التوحیدی الفطری.

ولهذا نرى فی حدیث عن أمیر المؤمنین علی(علیه السلام) فی تفسیر هذه الآیة: «لا یجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا فی جوف إنسان، إنّ الله لم یجعل لرجل قلبین فی جوفه، فیحبّ بهذا ویبغض بهذا، فأمّا محبّنا فیخلص الحبّ لنا کما یخلص الذهب بالنار لا کدر فیه، فمن أراد أن یعلم فلیمتحن قلبه، فإن شارک فی حبّنا حبّ عدوّنا فلیس منّا ولسنا منه»(2).

وبناءً على هذا فإنّ القلب مرکز الإعتقاد الواحد، وینفّذ برنامجاً عملیاً واحداً، لأنّ الإنسان لا یستطیع أن یعتقد بشیء حقیقة وینفصل عنه فی العمل، وما یدّعی بعض المعاصرین من أنّهم یمتلکون شخصیات متعدّدة، ویقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلانی سیاسیاً، وبذلک العمل دینیاً، والآخر اجتماعیاً، ویوجّهون بذلک أفعالهم المتناقضة، فهو ناشیء من نفاقهم وسوء سریرتهم حیث یریدون أن یسحقوا بهذا الکلام قانون الخلقة.

صحیح أنّ أبعاد حیاة الإنسان مختلفة، ولکن یجب أن یحکمها خطّ واحد، وتسیر ضمن منهاج واحد.

ثمّ یتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلیة، وهی خرافة «الظهار»، حیث إنّ المشرکین کانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن یبدوا تنفّرهم وعدم ارتیاحهم، قالوا للزوجة: أنت علیّ کظهر اُمّی فیعتبرها بمثابة اُمّه، وکان یعدّ هذا الکلام بمنزلة الطلاق!

یقول القرآن الکریم فی تتمّة هذه الآیة: (وما جعل أزواجکم اللائی تظاهرون منهنّ اُمّهاتکم) فلم یمض الإسلام هذا القانون الجاهلی، ولم یصادق علیه، بل جعل عقوبة لمن یتعاطاه، وهی: أنّ من نطق بهذا الکلام فلا یحقّ له أن یقرب زوجته حتى یدفع الکفّارة، وإذا لم یدفعها ولم یأت زوجته فإنّ لها الحقّ فی أن تستعین بحاکم الشرع لیجبره على أحد أمرین: إمّا أن یطلّقها وفقاً لأحکام الإسلام ویفارقها، أو أن یکفّر ویستمرّ فی حیاته الزوجیة کالسابق(3).

أی منطق هذا الذی تصبح فیه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن یقول لها: أنت علیّ کظهر اُمّی؟! إنّ ارتباط وعلاقة الاُمّ والولد علاقة طبیعیة لا تتحقّق بمجرّد الکلام مطلقاً، ولذلک تقول الآیة 2 من سورة المجادلة بصراحة: (إن اُمّهاتهم إلاّ اللائی ولدنهم وإنّهم لیقولون منکراً من القول وزور).

وإذا کان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الکلمات هو الإفتراق والإنفصال عن المرأة ـ (وهکذا کان فی عصر الجاهلیة، حیث کانوا یقولون هذه الکلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الإنفصال عن المرأة لا یحتاج إلى مثل هذا الکلام القبیح السیّء. ألا یمکن أن یصرّح بالطلاق بتعبیر صحیح بعید عن کلّ ذلک القبح؟

وقال بعض المفسّرین: إنّ «الظهار» فی الجاهلیة لم یکن یؤدّی إلى إنفصال الرجل عن المرأة، بل إنّه کان یجعل المرأة کالمعلّقة لا یعرف حالها ومصیرها، وإذا کانت المسألة کذلک، فإنّ جنایة هذا العمل وقبحه ستکون أوضح، لأنّ کلمة لا معنى لها کانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجیة مع زوجته من دون أن تکون المرأة مطلّقة(4).

ثمّ تطرّقت الآیة إلى ثالث خرافة جاهلیة، فقالت: (وما جعل أدعیاءکم أبناءکم).

وتوضیح ذلک: أنّه کان من المتعارف فی زمن الجاهلیة أنّهم کانوا ینتخبون بعض الأطفال کأولاد لهم، ویسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمیة یعطونه کلّ الحقوق التی یستحقّها الولد من الأب، فیرث الولد من تبنّاه، کما یرث المتبنّی الولد، ویجری علیهما تحریم إمرأة الأب أو زوجة الإبن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غیر المنطقیة والخرافیة أشدّ النفی، بل ـ وکما سنرى ـ أنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّى «زید بن حارثة» بعد أن طلّقها زید، لیتّضح من خلال هذه السنّة النبویة أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا یمکن أن تغیّر الحقائق والواقع، لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبیعیة لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والإتّفاقیات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فیما بعد: أنّ زواج النّبی بزوجة زید المطلّقة قد أثار ضجّة عظیمة بین أعداء الإسلام، وأصبح حربة بیدهم للإعلام المضادّ السیء، إلاّ أنّ هذا العمل کان یستحقّ تحمّل کلّ ذلک الصخب الإعلامی لتحطیم هذه السنّة الجاهلیة، ولذلک یقول القرآن الکریم بعد هذه الجملة: (ذلکم قولکم بأفواهکم).

إنّکم تقولون: إنّ فلاناً ولدی، وأنتم تعلمون علم الیقین أنّ الأمر لیس کذلک، فإنّ الأمواج الصوتیة فقط هی التی تخرج من أفواهکم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبی، وهذا کلام باطل لیس إلاّ (والله یقول الحقّ وهو یهدی السبیل).

إنّ «قول الحقّ» یطلق على القول الذی ینطبق على الواقع الموضوعی تماماً، أو أن یکون من الاُمور الاعتباریة التی تنسجم مع مصالح کلّ أطراف القضیّة، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» فی الجاهلیة، أو «التبنّی» الذی کان یسحق حقوق الأبناء الآخرین إلى حدّ کبیر ـ لم یکونا من الموضوعات العینیة، ولا من الاعتباریات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ یضیف القرآن مؤکّداً وموضّحاً الخطّ الصحیح والمنطقی للإسلام: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

إنّ التعبیر بـ (أقسط) لا یعنی أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّین لهم فإنّه عدل، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعیین فإنّه أعدل، بل ـ وکما قلنا سابقاً مراراً ـ إنّ صیغة (أفعل التفضیل) تستعمل فی بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما، فمثلا نقول: من الأفضل أن یحتاط الإنسان ولا یلقی بنفسه فی الخطر، فلا یعنی هذا أنّ إلقاء النفس فی الخطر والتهلکة حسن، إلاّ أنّ الإحتیاط أفضل منه، بل إنّ المراد المقارنة بین الحسن والقبح.

وتقول الآیة لرفع الأعذار والحجج: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانکم فی الدین وموالیکم) أی إنّ عدم معرفة آبائهم لا یکون دلیلا على أن تضعوا اسم شخص آخر کأب لهذا الإبن، بل یمکنکم أن تخاطبوهم کإخوانکم فی الدین أو أصدقائکم وموالیکم.

(الموالی) جمع «مولى»، وقد ذکر المفسّرون له معانی عدیدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصدیق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر، لأنّ بعض الأدعیاء کانوا عبیداً یُشترون ثمّ یتحرّرون، ولمّا کان أصحابهم قد اهتّموا بهم وأحبّوهم فإنّهم کانوا یدعونهم کأبناء لهم.

وممّا یجدر الإشارة إلیه أنّ تعبیر (مولى) فی مثل هذه الموارد کان یرتبط بالعبید المحرّرین من جهة أنّهم کانوا یحتفظون بعلاقاتهم مع مالکیهم بعد تحرّرهم، تلک العلاقات التی کانت تنوب عن اُولی الأرحام فی بعض الجهات من الناحیة الحقوقیة، وکانوا یعبّرون عن ذلک بـ (ولاء العتق) ولذلک نقرأ فی الروایات الإسلامیة أنّ «زید بن حارثة» بعد أن أعتقه النّبی کان یُدعى زید بن محمّد، حتى نزل القرآن بالأمر أعلاه، فمن ذلک الحین قال له النّبی(صلى الله علیه وآله): «أنت زید بن حارثة»، وکان الناس یدعونه بعد ذلک: مولى رسول الله(5).

وقالوا أیضاً: کان لأبی حذیفة غلام یدعى «سالماً» فأعتقه وإدّعاه، فلمّا نزلت هذه الآیة کانوا یسمّونه: سالماً مولى أبی حذیفة(6).

ولکن ربّما یدعو الشخص إنساناً لغیر أبیه لاعتیاده ذلک سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لاشتباهه فی تشخیص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود اختیار الإنسان، فإنّ الله العادل الحکیم لا یعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآیة: (ولیس علیکم جناح فیما أخطأتم به ولکن ما تعمّدت قلوبکم(7) وکان الله غفوراً رحیم).

إنّه تعالى یغفر لکم ما سبق، ویعفو عن السهو والنسیان والإشتباه، أمّا بعد نزول هذا الحکم فإنّ الله عزّوجلّ سوف لا یغفر لکم مخالفتکم إن صدرت عن عمد وقصد، فتدعون أفراداً بغیر أسماء آبائهم، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السیء بالدعوة لغیر الأب.

وقال بعض المفسّرین: إنّ موضوع الخطأ یشمل الموارد التی یقول فیها الإنسان لآخر تحبّباً: ولدی، أو یابنیّ، أو یقول فیها لآخر إحتراماً: یاأبت!

وهذا الکلام صحیح ـ طبعاً ـ وهذه التعبیرات لا تعدّ ذنباً، لکن لا لأجل عنوان الخطأ، بل لأنّ لهذه التعبیرات صفة الکنایة والمجاز، وقرینتها معها عادة، والقرآن ینفی التعبیرات الحقیقیة فی هذا الباب، لا المجازیة.

ثمّ تتطرّق الآیة التالیة إلى مسألة مهمّة اُخرى، أی إبطال نظام «المؤاخاة» بینهم.

وتوضیح ذلک: أنّ المسلمین لمّا هاجروا من مکّة إلى المدینة وقطع الإسلام کلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشرکین الذین کانوا فی مکّة تماماً، فقد أجرى النّبی (صلى الله علیه وآله) بأمر الله عقد المؤاخاة بینهم وعقد عهد المؤاخاة بین «المهاجرین» و«الأنصار»، وکان یرث أحدهم الآخر کالأخوین الحقیقیین، إلاّ أنّ هذا الحکم کان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة استثنائیة جدّاً، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدریجیّاً لم تکن هناک ضرورة لاستمرار هذا الحکم، فنزلت الآیة أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذی کان یحلّ محلّ النسب، وجعل حکم الإرث وأمثاله مختّصاً باُولی الأرحام الحقیقیین.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة کان نظاماً إسلامیاً ـ على خلاف نظام التبنّی الذی کان نظاماً جاهلیاً ـ ولکن کان من الواجب أن یُلغى بعد ارتفاع الحالة الموجبة له، وهکذا حصل، غایة ما فی الأمر أنّ الآیة قبل أن تذکر هذا الحکم ذکرت حکمین آخرین ـ أی کون النّبی(صلى الله علیه وآله) أولى بالمؤمنین من أنفسهم، وکون نساء النّبی(صلى الله علیه وآله) کاُمّهاتهم ـ کمقدّمة، فقالت: (النّبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم).

ومع أنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنین إلاّ أنّهم لا یرثون منهم مطلقاً، فکیف یُنتظر أن یرث الابن المتبنّی؟!

ثمّ تضیف الآیة: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فی کتاب الله من المؤمنین والمهاجرین) ولکن مع ذلک، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمین تماماً ولیکون بإمکان المؤمنین تعیین شیئاً من الإرث لإخوانهم ـ وإن کان بأن یوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآیة تضیف فی النهایة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أولیائکم معروف).

وتقول فی آخر جملة تأکیداً لکلّ الأحکام السابقة، أو الحکم الأخیر: (کان ذلک فی الکتاب مسطور) ـ فی اللوح المحفوظ أو فی القرآن الکریم ـ .

کان هذا خلاصة تفسیر الآیة أعلاه، والآن یجب أن نتطرّق إلى تفصیل کلّ واحد من الأحکام الأربعة التی وردت فی هذه الآیة:

الحکم الأوّل: ما هو المراد من کون النّبی أولى بالمؤمنین؟

لقد ذکر القرآن فی هذه الآیة أولویة النّبی(صلى الله علیه وآله) بالمسلمین بصورة مطلقة، ومعنى ذلک أنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) أولى بالإنسان المسلم من نفسه فی جمیع الصلاحیات التی یمتلکها الإنسان فی حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرین فسّروها بمسألة «تدبیر الاُمور الاجتماعیة»، أو «الأولویة فی مسألة القضاء»، أو «طاعة الأمر»، إلاّ أنّنا فی الواقع لا نمتلک أی دلیل على انحصار الآیة فی أحد هذه الاُمور الثلاث.

وإذا لاحظنا فی بعض الروایات الإسلامیة تفسیر الأولویة بـ «الحکومة»، فهو فی الحقیقة بیان لأحد فروع هذه الأولویة(8).

لذلک یجب أن یقال: إنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) أولى من کلّ إنسان مسلم فی المسائل الاجتماعیة والفردیة، وکذلک فی المسائل المتعلّقة بالحکومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأیه مقدّم على إرادة أی مسلم ورأیه.

ولا ینبغی العجب من هذه المسألة، لأنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) معصوم ووکیل لله سبحانه، ولا یفکّر ویقرّر إلاّ فی صالح المجتمع والفرد، ولا یتّبع الهوى أبداً، ولا یعتبر مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرین وأهمّ منها، بل على العکس من ذلک، فهو یؤثّر ویقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتین.

إنّ هذه الأولویة فرع من أولویة المشیئة الإلهیّة، لأنّ کلّ ما لدینا من الله سبحانه، إضافة إلى أنّ الإنسان لا یصل إلى أوج الإیمان إلاّ عند ما یضحّی بأقوى العلائق والدوافع فیه، وهو عشقه لذاته فی طریق عشقه لذات الله وخلفائه، ولذلک نقرأ فی حدیث: «لا یؤمن أحدکم حتى یکون هواه تبعاً لما جئت به»(9).

وجاء فی حدیث آخر: «والذی نفسی بیده لا یؤمن أحدکم حتى أکون أحبّ إلیه من نفسه وماله وولده والناس أجمعین»(10).

وکذلک روی عنه(صلى الله علیه وآله): «ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به فی الدنیا والآخرة»(11).

ویقول القرآن الکریم فی الآیة 36 من سورة الأحزاب هذه: (وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن یکون لهم الخیرة من أمرهم).

ونؤکّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الکلام لا یعنی أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما، بل من جهة أنّ للنّبی(صلى الله علیه وآله) مقام العصمة، وبمصداق: (لا ینطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحی یوحى)(12) فإنّ کلّ ما یقوله هو کلام الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم حتى من الأب بهذه الاُمّة.

إنّ هذه الأولویة فی الحقیقة تقع فی مسیر منافع الناس فی جوانب الحکومة وتدبیر المجتمع الإسلامی، وکذلک فی المسائل الشخصیة والفردیة.

ویتبیّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولویة تضع على عاتق النّبی(صلى الله علیه وآله) مسؤولیات ثقیلة ضخمة، ولذلک نقرأ فی الروایة المشهورة الواردة فی مصادر الشیعة والسنّة، أنّ النّبی (صلى الله علیه وآله)قال: «أنا أولى بکلّ مؤمن من نفسه، ومن ترک مالا فللوارث، ومن ترک دَیناً أو ضیاعاً فإلیّ وعلیّ»(13).

ینبغی الإلتفات إلى أنّ «الضیاع» هنا بمعنى الأولاد أو العیال الذین بقوا بدون معیل، والتعبیر بـ «الدَّین» قبلها قرینة واضحة على هذا المعنى، لأنّ المراد بقاء الدَّین بدون مال یسدّد به.

الحکم الثّانی: فی هذا الباب یتعلّق بأزواج النّبی حیث یُعتبرن کاُمّهات لکلّ المؤمنین، وهی طبعاً اُمومة معنویة وروحیة، کما أنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) أب روحی ومعنوی للاُمّة.

إنّ تأثیر هذا الإرتباط المعنوی کان منحصراً فی مسألة حفظ احترام أزواج النّبی وحرمة الزواج منهنّ، کما جاء الحکم الصریح بتحریم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبی (صلى الله علیه وآله) فی آیات هذه السورة، وإلاّ فلیس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحیة الإرث وسائر المحرّمات النسبیة والسببیة، أی إنّ المسلمین کان من حقّهم أن یتزوّجوا بنات النّبی، فی حین أنّ أیّ أحد لا یستطیع الزواج من ابنة اُمّه، وکذلک مسألة کونهنّ أجنبیات، وعدم جواز النظر إلیهن إلاّ للمحارم.

فی حدیث عن الإمام الصادق(علیه السلام): «إنّ إمرأة قالت لعائشة: یااُمّه! فقالت: لست لک باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالکم»(14) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبیر هو حرمة التزویج، وهذا صادق فی رجال الاُمّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة، وهی إحترامهنّ وتعظیمهنّ ـ کما قلنا ـ إضافةً إلى قضیّة عدم الزواج، ولذلک فإنّ نساء المسلمین کنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبی بالاُمّ بعنوان احترامهنّ.

والشاهد لهذا القول، أنّ القرآن الکریم یقول: (النّبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم)وهذا یعنی أولویة النّبی بکلّ النساء والرجال، وضمیر الجملة التالیة یعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى، ولذلک نقرأ فی العبارة التی نقلت عن «اُمّ سلمة» ـ وهی من أزواج النّبی (صلى الله علیه وآله) ـ أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منکم والنساء(15).

سؤال: وهنا یطرح سؤال، وهو: هل أنّ تعبیر (وأزواجه اُمّهاتهم) یتناقض مع ما ورد فی الآیة 2 من سورة المجادلة: (والذین یظاهرون منکم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إن اُمّهاتهم إلاّ اللائی ولدنهم وإنّهم لیقولون منکراً من القول وزور) فکیف تعتبر نساء النّبی ـ والحال هذه ـ اُمّهات المسلمین ولم یولدوا منهنّ؟

الجواب: وینبغی فی الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة إمرأة ما بالاُمّ إمّا أن تکون من الناحیة الجسمیة أو الروحیة.

فأمّا من الناحیة الجسمیة: فإنّ هذه المخاطبة تکون واقعیة فی حالة کون الإنسان مولوداً منها فقط، وهذا هو الذی جاء فی الآیات السابقة بأنّ الاُمّ الجسمیة للإنسان هی التی تلده فقط.

وأمّا الأب أو الاُمّ الروحیین، فهو الذی له حقّ معنویّ على الإنسان کالنّبی(صلى الله علیه وآله) الذی یعتبر الأب الروحی للاُمّة، ولأجله اکتسبت أزواجه منزلة واحترام الاُمّ.

والإشکال الذی کان یوجّه إلى عرب الجاهلیة فی مورد «الظهار» أنّهم عندما کانوا یخاطبون أزواجهم بخطاب الاُمّ فمن المسلّم أنّ مرادهم لیس الاُمّ المعنویة، بل المقصود أنّهنّ کالاُمّ الجسمیة، ولذلک کانوا یعدّونه نوعاً من الطلاق، ونعلم أنّ الاُمّ الجسمیة لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ، بل إنّ شرط ذلک الولادة الجسمیة، وبناءً على هذا فإنّ کلامهم کان منکراً وزوراً.

أمّا فی مورد أزواج النّبی(صلى الله علیه وآله)، فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمیاً، إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحیات إکتساباً من مقام واحترام النّبی(صلى الله علیه وآله) ولهنّ وجوب الإحترام کاُمّهات، وإذا رأینا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبی(صلى الله علیه وآله) فی الآیات القادمة، فإنّ ذلک شأن آخر من شؤون إحترامهنّ وإحترام النّبی(صلى الله علیه وآله) کما سیأتی توضیح ذلک بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناک نوع ثالث من الاُمّهات فی الإسلام وهی الاُمّ المرضعة، والتی اُشیر إلیها فی الآیة 23 من سورة النساء: (واُمّهاتکم اللاتی أرضعنکم) إلاّ أنّها فی الحقیقة فرع من فروع الاُمّ الجسمیة.

الحکم الثالث: مسألة أولویة اُولی الأرحام فی الإرث بالنسبة إلى الآخرین، لأنّ قانون الإرث فی بدایة الإسلام ـ حیث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة، أی أنّ المهاجرین کانوا یرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذین تآخوا معهم ولکن لم تکن هناک ضرورة للاستمرار علیه بعد توسّع الإسلام وإعادة کثیر من العلاقات القومیة والرحمیة السابقة نتیجة إسلام أقوامهم ـ (وینبغی الإلتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت فی السنة الخامسة للهجرة، وهی سنة «حرب الأحزاب») لذلک ثبّتت أولویة اُولی الأرحام بالنسبة إلى الآخرین.

وهناک قرائن على أنّ المراد من الأولویة هنا هی الأولویة الإلزامیة لا الإستحبابیة، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى، إضافة إلى الروایات الکثیرة الواردة فی المصادر الإسلامیة، والتی تثبت هذا الموضوع.

ویجب هنا الإلتفات إلى هذه المسألة بدقّة، وهی: أنّ هذه الآیة بصدد بیان أولویة اُولی الأرحام فی مقابل الأجانب، لا بیان أولویة طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض، وبتعبیر آخر، فإنّ المفضّل علیهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذین ورد ذکرهم فی متن القرآن: (من المؤمنین والمهاجرین).

بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآیة یصبح: إنّ اُولی الأرحام أولى من الأجانب من ناحیة الإرث، أمّا کیف یرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أی أساس ومعیار؟ فإنّ القرآن سکت عن ذلک فی هذا الموضع، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا فی آیات سورة النساء(16).

الحکم الرّابع: الذی ورد فی الآیة أعلاه کاستثناء، هو استفادة وإنتفاع الأصدقاء والأفراد المعینین الذین یخصّهم الأمر من الأموال التی یترکها الإنسان کذکرى، والذی بُیّن بجملة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أولیائکم معروف) ومصداقه الواضح هو حکم الوصیّة، حیث یستطیع الإنسان أن یتصرّف فی ثلث أمواله ویضعه حیث یشاء، أو یوصی به لمن یشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة، لم یقطع وشائج الصلة بین الإنسان ورفقائه الذین یعزّهم وباقی إخوته المسلمین تماماً، فالإنسان حرّ فی التصرّف فی ماله من ناحیة الکمیّة والکیفیة، إلاّ أنّ هذه الحریة مشروطة بأن لا تزید على الثلث، ومن الطبیعی أنّ الإنسان إذا لم یوص بشیء فإنّ کلّ أمواله تقسّم بین أقاربه وذوی رحمه طبقاً لقانون الإرث، ولا یترک له ثلث فی هذه الحالة(17).


1. تفسیر مجمع البیان، ج 8، ص 335، ذیل الآیة مورد البحث، وتفسیر القرطبی.
2. تفسیر علی بن إبراهیم، طبقاً لنقل تفسیر نورالثقلین، ج 4، ص 234.
3. سیأتی ـ إن شاء الله تعالى ـ توضیح أکثر حول المسائل المرتبطة بالظهار فی ذیل الآیات المناسبة فی سورة المجادلة.
4. تفسیر فی ظلال القرآن، ج 6، ص 534، ذیل الآیة مورد البحث.
5. تفسیر روح المعانی، ج 21، ص 131، ذیل الآیة مورد البحث.
6. تفسیر روح البیان، ذیل الآیة مورد البحث.
7. قال المفسّرون: إنّ کلمة (م) هنا موصولة، وهی من ناحیة الإعراب مبتدأ، وخبرها محذوف، وتقدیر الجملة: (لکن ما تعمّدت قلوبکم فإنّکم تؤاخذون علیه).
8. وردت هذه الروایات فی اُصول الکافی، وکتاب علل الشرائع. راجع تفسیر نورالثقلین، ج 4، ص 238 و239.
9. تفسیر فی ظلال القرآن، ج 6، ص 540، ذیل الآیات مورد البحث.
10. المصدر السابق.
11. صحیح البخاری، ج 6، ص 145، تفسیر سورة الأحزاب; ومسند أحمد، ج 2، ص 334.
12. النّجم، 3 و4.
13. نقل هذا الحدیث عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن النّبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) فی وسائل الشیعة، ج 17، ص 551، وورد هذا المضمون بتفاوت یسیر فی تفسیر القرطبی، وتفسیر روح المعانی فی ذیل الآیات مورد البحث، وورد أیضاً فی صحیح البخاری، ج 6، ص 145، تفسیر سورة الأحزاب.
14. تفسیر مجمع البیان، ج 8، ص 338، وتفسیر روح المعانی، ذیل الآیات مورد البحث.
15. تفسیر روح المعانی، ذیل الآیات مورد البحث.
16. بناءً على هذا، فإنّ استدلال بعض الفقهاء بهذا التعبیر على أولویة طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا یبدو صحیحاً، وربّما سبّب حرف الباء فی (أولى ببعض) مثل هذا الإشتباه، فظنّوا أنّ المفضّل علیهم هنا هم البعض، فی حین أنّ القرآن الکریم ذکر صریحاً أنّ المفضّل علیهم هم من المؤمنین والمهاجرین.
نعم... إنّ تعبیر (اُولو الأرحام) لا یستطیع أن یشعر بمفرده أنّ المعیار هو الرحم والقرابة، وأنّ درجة القرابة کلّما قویت وارتفعت فستکون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلک ـ . 17. یعتقد جمع من المفسّرین أنّ الإستثناء فی جملة (إلاّ أن تفعلوا...) إستثناء منقطع، لأنّ حکم الوصیّة غیر حکم الإرث، ولکنّا نعتقد أن لا مانع من أن یکون الإستثناء هنا متّصلا، لأنّ جملة (واُولو الأرحام...) دلیل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التی یترکها المیّت، إلاّ أن یکون قد أوصى، فإنّ الموصى له یکون حینئذ أولى من الأرحام فی إطار الثلث، وهذا فی الحقیقة شبیه بالإستثناءات التی وردت فی آیات الإرث بصیغة (من بعد وصیّة...).
سورة الأحزاب / الآیة 4 ـ 6 بحث
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma