ورد فی روایة أنّ یزید أمر الخطیب بالصعود على المنبر وأن یذکر معاویة بالخیر والثناء ویتهجم على الإمام الحسین(علیه السلام) وأهل بیته، فامتثل الخطیب ما أمر به یزید وأکثر من سبّ أمیرالمؤمنین والإمام الحسین(علیهما السلام)!!
وفجأة صاح به الإمام زین العابدین(علیه السلام): «وَیْلَکَ أَیُّهَا الْخاطِبُ! لَقَدِ اشْتَرَیْتَ مَرْضاةَ الَْمخْلُوقِ بِسَخَطِ الْخالِقِ، فَتَبَوَّأْ مَقْعَدَکَ مِنَ النّارِ!».
ثم قال الإمام(علیه السلام): «یا یَزِیدُ أَتَاْذَنُ لی أَنْ أرْقى هذِهِ الاَْعْوادَ(1) فَأَتَکَلَّمَ بِکَلام فیهِ للهِِ تَعالى رِضىً،وَلِهؤُلاءِ أَجْرٌ وَثَوابٌ».
فأبى یزید علیه ذلک، لأنّه یعلم أنّ نتیجة کلامه الفضیحة له ولبنی اُمیة، ولکن الناس أصرّوا بأن یأذن له ولکن یزید امتنع من ذلک إلى أن قال له ابنه معاویة: «یا أبة ائذن له فلیصعد المنبر وما قدر ما یحسنه هذا» (وسوف یفضح نفسه).
فقال له یزید: «إنَّ هؤلاءِ وَرِثُوا الْعِلْمَ وَالْفَصاحَةَ وَزُقُّوا الْعِلْمَ زَقّاً».
قال الراوی: فلم یزالوا به حتى أذن له، فصعد الإمام علیّ بن الحسین(علیه السلام)المنبر، فحمد الله وأثنى علیه ثمّ خطب خطبةً أبکى منها العیون وقال.
أَیُّهَا النّاسُ! اُعْطِینا سِتّاً وَفُضِّلْنا بِسَبْع: أُعْطِینَا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالسَّماحَةَ وَالْفَصاحَةَ وَالشَّجاعَةَ وَالَْمحَبَّةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤمِنِینَ، وَفُضِّلْنا بِأَنَّ مِنَّا النَّبِیَّ الُْمخْتارَ مُحَمَّداً، وَمِنَّا الصِّدِّیقُ، وَمِنَّا الطَّیّارُ، وَمِنّا أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَمِنّا سِبْطا هذِهِ الأُمَّةِ(2).
مَنْ عَرَفَنی فَقَدْ عَرَفَنی، وَمَنْ لَمْ یَعْرِفْنی أَنْبَأْتُهُ بِحَسَبی وَنَسَبی.
ثم انطلق الإمام زین العابدین(علیه السلام) بالتعریف بنفسه أکثر وقال:
أَیُّهَا النّاسُ! أَنَا ابْنُ مَکَّةَ وَمِنى، أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَالصَّفا، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ الرُّکْنَ بِأَطْرافِ الرِّدا(3)، أَنَا ابْنُ خَیْرِ مَنِ ائْتَزَرَ وَارْتَدى، أَنَا ابْنُ خَیْرِ مَنِ انْتَعَلَ وَاحْتَفى، أَنَا ابْنُ خَیْرِ مَنْ طافَ وسَعى، أَنَا ابْنُ خَیْرِ مَنْ حَجَّ وَلَبّى، أَنَا ابْنُ مَنْ حُمِلَ عَلَى الْبُراقِ فِی الْهَواءِ، أَنَا ابْنُ مَنْ اُسْرِیَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصى، أَنَا ابْنُ مَنْ بَلَغَ بِهِ جَبْرَئِیلُ إِلى سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، أَنَا ابْنُ مَنْ دَنا فَتَدَلّى فَکانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنى، أَنَا ابْنُ مَنْ صَلّى بِمَلائکَةِ السَّماءِ، أَنَا ابْنُ مَنْ أَوْحى إِلَیْهِ الْجَلیلُ ما أَوْحى، أَنَا ابْنُ مُحَمَّد الْمُصْطفى، أَنَا ابْنُ عَلِیٍّ الْمُرْتَضى، أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ خَراطِیمَ الْخَلْقِ حَتّى قالُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ.
واستمر الإمام السجّاد فی ذکر فضائل أمیرالمؤمنین(علیه السلام) والتعریف بشخصیته (لکی یبطل أثر الاعلام السیء ضد أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام) الذی استمر سنوات مدیدة فی الشام) وقال:
أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ اللهِ بِسَیْفَیْنِ، وَطَعَنَ بِرُمْحَیْنِ، وَهاجَرَ الْهِجْرَتَیْنِ(4)، وَبایَعَ الْبَیْعَتَیْنِ(5)، وَقاتَلَ بِبَدْر وَ حُنَیْن، وَلَمْ یَکْفُرْ بِاللهِ طَرْفَةَ عَیْن، أَنَا ابْنُ صالِحِ الْمُؤْمِنِین، وَوارِثِ النَّبِیِّینَ، وَقامِعِ المُلْحِدِینَ، وَیَعْسُوبِ الْمُسْلِمِینَ، وَنُورِ الْمُجاهِدِینَ، وَزَیْنِ الْعابِدِینَ، وَتاجِ البَکَّائِینَ، وَأَصْبَرِ الصّابِرینَ، وَأَفْضَلِ الْقائِمِینَ مِنْ آلِ یاسِینَ رَسُولِ رَبِّ العالَمِینَ، أَنَا ابْنُ المُؤَیَّدِ بِجَبْرَئِیلَ، أَلْمَنْصُورِ بِمِیکائِیلَ.
أَنَا ابْنُ الُْمحامِی عَنْ حَرَمِ الْمُسْلِمِینَ، وَ قاتِلِ الْمارِقِینَ وَالنّاکِثِینَ وَالْقاسِطِینَ، وَالْمُجاهِدِ أَعْداءَهُ النّاصِبِینَ، وَأَفْخَرِ مَنْ مَشى مِنْ قُرَیْش أَجْمَعِینَ، وَأَوَّلِ مَنْ أَجابَ وَاسْتَجابَ للهِِ وَلِرَسُولِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ، وَأَوَّلِ السّابِقِینَ، وَقاصِمِ الْمُعْتَدِینَ، وَمُبِیدِ الْمُشْرِکِینَ، وَسَهْم مِنْ مَرامِی اللهِ عَلَى الْمُنافِقِینَ، وَلِسانِ حِکْمَةِ الْعابِدِینَ، وَناصِرِ دِینِ اللهِ، وَوَلىِّ أَمْرِاللهِ، وَبُسْتانِ حِکْمَةِ اللهِ، وَعَیْبَةِ عَلْمِهِ، سَمِحٌ، سَخِیٌّ، بَهِیٌّ، بُهْلُولٌ، زَکِیٌّ، أَبْطَحِیٌّ، رَضِیٌّ، مِقْدامٌ، هُمامٌ، صابِرٌ، صَوّامٌ، مُهَذَّبٌ، قَوّامٌ، قاطِعُ الأَصْلابِ، وَمُفَرِّقُ الأَحْزابِ، أرْبَطُهُمْ عِنانَاً، وَأَثْبَتُهُمْ جَناناً، وَأَمْضاهُمْ عَزِیمَةً، وَأَشَدُّهُمْ شَکِیمَةً، أَسَدٌ باسِلٌ، یَطْحَنُهُمْ فِی الْحُرُوبِ إِذَا ازْدَلَفَتِ الاَْسِنَّةُ وَقَرُبَتِ الاَْعِنَّةُ، طَحْنَ الرَّحى، وَیَذْرَؤُهُمْ فِیها ذَرْوَ الرِّیحِ الْهَشِیمِ، لَیْثُ الْحِجازِ، وَکَبْشُ الْعِراقِ، مَکّیٌّ مَدَنیٌّ، خَیْفِیٌّ عَقَبِیٌّ، بَدْرِیٌّ أُحُدِیٌّ، شَجَرِیٌّ مُهاجِرِیٌّ .
مِنَ الْعَرَبِ سَیِّدُها، وَمِنَ الوَغى لَیْثُها، وارِثُ الْمَشْعَرَیْنِ(6)، وَأَبُوالسِّبْطَیْنِ: ألْحَسَنِ وَالْحُسَیْنِ، ذاکَ جَدِّی عَلیُّ بنُ أَبِی طالِب.
ثم قال الإمام(علیه السلام):
«أَنَا ابْنُ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ، أَنَا ابْنُ سَیِّدَةِ النِّساءِ...».
قال الراوی: فلم یزل الإمام زین العابدین(علیه السلام) یقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبکاء والنحیب وخشی یزید أن تقع فتنة فأمر المؤذّن فقطع علیه الکلام.
فلمّا قال المؤذّن: «أَلله أَکْبَر أَلله أکْبَر». قال الإمام(علیه السلام): «لا شَیْءَ أَکْبَرُ مِنَ اللهِ».
فلمّا قال المؤذّن: «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ». قال الإمام(علیه السلام): «شَهِدَ بِها شَعْری وَبَشَری وَلَحْمی وَدَمی».
فلمّا قال المؤذّن: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ»، إلتفت الإمام السجاد(علیه السلام) من فوق المنبر إلى یزید، فقال : «محَمَّدٌ هذا جَدّی أَمْ جَدُّکَ یا یَزیدُ؟ فإنْ زَعَمتَ أنّهُ جَدُّکَ کَذِبتَ وکَفَرْتَ وإنْ زَعَمتَ أنَّهُ جَدّی فَلِمَ قَتَلتَ عِترتَهُ؟ فَلِمَ قَتَلتَ أبی ظُلماً وانتَهَبْتَ مالَهُ وسَبَیْتَ نِساءَهُ»؟
فاضطرب یزید فصاح بالمؤذن أن یقیم الصلاة فوقع بین الناس دمدمة وزمزمة عظیمة بعض صلّى مع یزید وبعض لم یصلّ حتى تفرّقوا(7).
وطبقاً لروایة أخرى، عندما قال الموذّن: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ» أخذ الإمام زین العابدین(علیه السلام) عمامته من رأسهِ، وقال للمؤذّن: أسْأَلُکَ بِحَقِّ مُحَمَّد هذا أنْ تَسْکُتَ ساعةً، ثمَّ أقْبَلَ على یزید وقال: «یَا یَزِیدُ، هذا الرّسولُ العَزِیزُ الکَریمُ جَدّی أمْ جَدُّکَ، فإن زَعَمْتَ أنَّهُ جَدُّکَ یَعْلَمُ الْعَالَمُون أنَّکَ کاذِبٌ وإن زَعَمْتَ أنَّهُ جَدّی فَلِمَ قَتَلْتَ أبی ظُلْماً وَانْتَهَبْتَ مَالَهُ وَسبیت عِیالَهُ؟».
فقال الإمام زین العابدین(علیه السلام) هذا وأهوى إلى ثوبه فشقّه ثم بکى وقال: «واللهِ لو کَانَ فِی الدُّنیا مَنْ جَدُّهُ رَسُولُ اللهِ(صلى الله علیه وآله) فَلَیْسَ غَیری، فَلِمَ قَتَلَ هَذا الرّجّل أبی ظُلْماً وسَبانا کَما تُسبى الرّوم».
ثُمّ قال(علیه السلام): «یا یَزیدُ فَعَلتَ هَذا ثُمّ تَقُولُ مُحمّدٌ رَسُول الله وَتَستقبِل القِبلة، فَویلٌ لَکَ مِن یَومِ القِیامةِ حَیثُ کانَ خَصمُکَ جَدّی وأبی».
واضطرب المجلس وأحس یزید بالخطر والفتنة فصاح یزید بالمؤذن أن یقیم الصلاة فوقع بین الناس دمدمة وزمزمة عظیمة بعض صلى مع یزید وبعض لم یصلّ حتى تفرقوا(8).
وغنی عن البیان أنّ هذه الخطبة العجیبة والعدیمة النظیر قد أثارت ضجة فی الشام وهزت عروش الأمویین وأجهضت اعلامهم المسموم ضد أمیرالمؤمنین(علیه السلام)طیلة أربعین سنة وانتشرت کالصاعقة فی جمیع أرجاء البلاد الإسلامیة، أجل، فمثل هذه الخطبة الغراء ولدت مثل هذا الأثر العظیم، حتى أنّ الإنسان فی هذا العصر عندما یقرأ هذه الخطبة یشعر برعشة فی بدنه ویصلی ویسلّم على صاحبها الآف الصلوات والتحیات.
والنقطة الملفتة للنظر أنّ الإمام زین العابدین(علیه السلام) ألقى هذه الخطبة فی ظروف غیر مؤاتیة حیث کان یزید بن معاویة یعیش حالات السکر والغرور من انتصاره المزعوم وقد شکل مجلساً حافلاً یضم الأعیان وسفراء البلاد الأخرى احتفالاً بهذا النصر.
إنّ الجوّ الناشىء من فاجعة کربلاء واستبداد الحکومة الأمویة من جهة، والارهاق والتعب من جراء الأسر والسفر الطویل من جهة أخرى وکذلک الآلام الروحیة الناشئة من فاجعة کربلاء واستشهاد الإمام الحسین(علیه السلام) وأهل بیته(علیهم السلام)وأصحابه(رحمهم الله) کلها تعتبر عاملاً أساسیاً لتحطیم روحیة الإنسان الذی یواجه مثل هذه التحدیات الصعبة ومن شأنها أن لا تبقی للإمام علی بن الحسین(علیهما السلام) القدرة على الحدیث العادی، ولا سیما أنّ الإمام کان مقیداً بالأغلال والحبال إلى جانب عمّته زینب الکبرى(علیها السلام) وباقی النسوة والأطفال من بنی هاشم حیث أدخلوهم إلى ذلک المجلس بهذه الصورة.
ولکن الإمام زین لعابدین(علیه السلام) وارث علم النبی والفصاحة العلویة والشجاعة الحسینیة، ألقى هذه الخطبة بکامل الطمأنینة وفی غایة الفصاحة والبلاغة، وقد عرّف نفسه وأبیه وجدّه للناس لإزالة غبار الغفلة والجهل عنهم واتمام الحجة علیهم.
أجل، فقد أتم الحجّة على أهل الشام الذین قضوا عمرهم وهم یعیشون الإسلام الأموی ویرون فی معاویة ویزید الفاسق وشارب الخمر أنّه أمیرالمؤمنین وخلیفة المسلمین ولا یرون شخصاً یمثّل الإسلام والدین سوى هؤلاء الفاسدین من بنی اُمیة، ویرون الإمام الحسین وأهل بیته الطاهرین(علیهم السلام) خارجین على الدین وعلى خلیفة المسلمین!!
ولمّا کان یزید یعلم إجمالاً بما یملکه الإمام من علم وتقوى وطهارة نبوّیة، فقد امتنع فی بدایة الأمر أن یأذن للإمام زین العابدین(علیه السلام) أن یرقى المنبر ویخطب فی الناس، لأنّ بنی اُمیّة بذروا أفکارهم فی أرض الجهل والغفلة عن الإسلام الحقیقی لدى أهل الشام ویعلمون أن اطلاع الناس على الحقیقة من شأنه أن یهدر أتعابهم وتبلیغاتهم لمدّة سنوات مدیدة، ولکن بسبب ضغط الناس وإصرارهم وافق یزید على أن یخطب الإمام بالناس، ووقع یزید فیما کان یخشى منه، حیث ارتفعت أصوات الاعتراض وسادت أجواء الحزن والبکاء على ذلک المجلس، وأخیراً ترک جماعة المجلس بدون أن یقتدوا بالخلیفة فی الصلاة.