کان «عبدالله بن عمیر الکلبی» من شبّان الکوفة الشجعان، وفی أحد الأیّام شاهد فی النخیلة جیشاً عظیماً متوجّهاً إلى کربلاء، فقال فی نفسه: اُشهد الله أننی مشتاق لجهاد المشرکین وأرجو أن لا یکون جهاد هؤلاء الذین خرجوا لقتال ابن بنت النبی(صلى الله علیه وآله) أقل ثواباً من قتال المشرکین. فطرح فکرته على زوجته «اُم وهب»، فوافقته على هذا الرأی، وخرج هو وزوجته لیلاً من الکوفة متوجهاً إلى کربلاء.
وفی یوم عاشوراء خرج یسار (غلام زیاد بن أبیه) وسالم (غلام عبیدالله بن زیاد) إلى المیدان وطلبا البراز، فبرز لهما فی البدایة حبیب بن مظاهر وبریر بن خضیر، ولکن الإمام الحسین(علیه السلام) منعهما من القتال، عند ذاک قام عبدالله بن عمیر واستأذن الإمام(علیه السلام)فی البراز فأذن له الإمام وقال:
«إنّی أراک قادراً على المواجهة، فإن برزا فابرز لهما».
فخرج عبدالله بن عمیر إلى المیدان واشتبک معهما فی القتال حتى قتلهما وعاد إلى معسکر الإمام(علیه السلام) وقد قطعت أصابع کفّه الیسرى، وأخذ یرتجز ویقول:
إنْ تُنْکِرونِی فَأَنَا بْنُ کَلْبِ *** حَسْبِی بِبَیْتِی فِی عُلَیْم حَسْبی
إنّی امْرَؤٌ ذُو مِرَّة وَعَصْب *** وَلَسْتُ بِالْخوّارِ عِنْدَ الْحَرْبِ
إنّی زَعِیمٌ لَکِ أُمَّ وَهْب *** بِالطَّعْنِ فِیهِمْ مَقْدَماً وَالضَّرْبِ
وقد کانت اُمّ وهب (زوجة عبدالله بن عمیر) تشهد ما یجری، فأخذت عمود الخیمة وتوجهت نحو زوجها وقالت: بأبی أنت واُمی قاتل دون الطیبین، وجاهد دون ذریّة رسول الله(صلى الله علیه وآله).
وجاء الإمام الحسین(علیه السلام) إلیها وقال لها: «جُزیتُمْ مِن أَهْلِ بَیْتِی خَیْراً، إرْجِعِی إلَى النِّساءِ رَحِمَکِ اللهُ فَقَدْ وُضِعَ عَنْکِ الْجِهادُ»(1).
وهجم الأعداء من کل جانب ووقعت معرکة شدیدة کان عبدالله بن عمیر یقاتل کالأسد الضاری إلى أن نال شرف الشهادة، فجاءت زوجته إلى جانب جسده المقطع إرباً إرباً وهی تقول: «هَنیئاً لَکَ الْجَنَّةُ أَسْأَلُ اللهَ الَّذِی رَزَقَکَ الْجَنَّةَ أَنْ یَصْحَبَنی مَعَکَ».
فجاءت إلیه تمسح الدم عن وجهه، فأبصرها شمر بن ذی الجوشن فأمر غلاماً له فضربها بالعمود على رأسها وقتلها، واستجاب الله تعالى دعاءها.
فهی أول امرأة قتلت فی حرب الحسین(علیه السلام) فی کربلاء(2).
إنّ تضحیة هذه المرأة المؤمنة لم تقتصر على هجومها على العدو بعمود الخیمة ولم تقتصر أیضاً على استشهادها فی هذه الواقعة، بل الأهم من ذلک أنّها عندما شاهدت جسد زوجها مقطعاً بالسیوف على رمضاء کربلاء قالت: «هَنیئاً لَکَ الْجَنَّةُ أَسْأَلُ اللهَ الَّذِی رَزَقَکَ الْجَنَّةَ أَنْ یَصْحَبَنی مَعَکَ»، وهذا الکلام یحکی عن أعلى درجات الإیمان والشجاعة الفائقة بحیث یجعل من هذه المرأة اُسوة وقدوة لجمیع الأجیال البشریة.