وینقل أحد أبناء الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) أنّه سمع من أبیه یروی عن آبائه الکرام أنّ فاطمة الصغرى بعد خروجها من کربلاء أوردت خطبة أمام الناس فی الکوفة وقالت:
أَلْحَمْدُللهِِ عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصى، وَزِنَةَ الْعَرْشِ اِلَى الثَّرى، أَحْمَدُهُ وَاُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَکَّلُ عَلَیْهِ، وَأَشْهَدُ اَنْ لا إِلهَ اِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِیکَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ أَوْلادَهُ ذُبِحُوا بِشَطِّ الْفُراتِ مِنْ غَیْرِ ذَحْل وَلا تِرات.
أَللّهُمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَفْتَرِیَ عَلَیْکَ الْکَذِبَ، وَأَنْ أَقُولَ خِلافَ ما أَنْزَلْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَخْذِ الْعُهُودِ لِوَصِیِّهِ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طالِب(علیه السلام)، ألْمَسْلُوبِ حَقُّهُ، ألمَقْتُولِ مِنْ غَیْرِ ذَنْب، ـ کَما قُتِلَ وَلَدُهُ بِالاَْمْسِ(2) ـ فِی بَیْت مِنْ بُیُوتِ اللهِ، وَبِها مَعْشَرٌ مُسْلِمَةٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ، تَعْساً لِرُؤُوسِهِمْ! ما دَفَعَتْ عَنْهُ ضَیْماً فِی حَیاتِهِ وَلا عِنْدَ مَماتِهِ، حَتّى قَبَضْتَهُ إِلَیْکَ مَحْمُودَ النَّقِیبَةِ، طَیِّبَ الضَّرِیبَةِ، مَعْرُوفَ الْمَناقِبِ، مَشْهُورَ الْمَذاهِبِ، لَمْ تَأْخُذْهُ فِیکَ لَوْمَةُ لائِم، وَلا عَذْلُ عاذِل، هَدَیْتَهُ یا رَبِّ لِلإِسْلامِ صَغِیراً، وَحَمِدْتَ مَناقِبَهُ کَبِیراً، وَلَمْ یَزَلْ ناصِحاً لَکَ وَلِرَسُولِکَ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَآلِهِ حَتّى قَبَضْتَهُ إِلَیْکَ زاهِداً فِی الدُّنْیا غَیْرَ حَرِیص عَلَیْها، راغِباً فِی الآخِرَةِ مُجاهِداً لَکَ فِی سَبیلِکَ، رَضَیْتَهُ فَاخْتَرْتَهُ، وَهَدَیْتَهُ إِلى طَریق مُسْتَقیم.
أَمّا بَعْدُ یا أَهْلَ الکُوفَةِ! یا أَهْلَ الْمَکْرِ وَالْغَدْرِ وَالْخُیَلاءِ، إِنّا أَهْلُ بَیْت ابْتَلانَا اللهُ بِکُمْ، وَابْتَلاکُمْ بِنا، فَجَعَلَ بَلاءَنا حَسَناً، وَجَعَلَ عِلْمَهُ عِنْدَنا وَفَهْمَهُ لَدَیْنا، فَنَحْنُ عَیْبَةُ عِلْمِهِ، وَوِعاءُ فَهْمِهِ وَحِکْمَتِهِ، وَحُجَّتُهُ فِی الأَرْضِ فِی بِلادِهِ لِعبادِهِ، أَکْرَمَنَا اللهُ بِکَرامَتِهِ، وَفَضَّلَنا بِنَبِیِّهِ(صلى الله علیه وآله)عَلى کَثیر مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِیلا، فَکَذَّبْتُمُونا وَکَفَّرْتُمُونا، وَرَأَیْتُمْ قِتالَنا حَلالا، وَأَموالَنا نَهْباً، کَأَنّا أَوْلادُ التُّرْکِ أَوْ کابُل، کَما قَتَلْتُمْ جَدَّنا بِالأَمْسِ، وَسُیُوفُکُمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمائِنا أَهْلَ الْبَیْتِ لِحِقْد مُتَقَدِّم، قَرَّتْ بِذلِکَ عُیُونُکُمْ، وَفَرِحَتْ بِهِ قُلُوبُکُم، اجْتِراءً مِنْکُمْ عَلَى اللهِ، وَمَکْراً مَکَرْتُمْ وَاللهُ خَیْرُ الْماکِرینَ، فَلا تَدْعُوَنَّکُمْ أَنْفُسُکُمْ إِلَى الْجَذَلِ بِما أَصَبْتُمْ مِنْ دِمائِنا، وَنالَتْ أَیْدِیکُمْ مِنْ أَمْوالِنا، فَإِنَّ ما أَصابَنا مِنَ المَصائِبِ الجَلِیلَةِ، وَالرَّزایا الْعَظِیمَةِ (فِی کِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِکَ عَلَى اللهِ یَسِیرٌ، لِکَیْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَکُمْ وَلاتَفْرَحُوا بِما آتاکُمْ وَاللهُ لایُحِبُّ کُلَّ مُخْتال فَخُور)(3).
تَبّاً لَکُمْ! فَانْتَظِرُوا اللَّعْنَةَ وَالْعَذابَ، فَکَأَنّما قَدْ حَلَّتْ بِکُمْ، وَتوَاتَرَتْ مِنَ السَّماءِ نَقِماتٌ فَیُسْحِتَکُمْ بِما کَسَبْتُمْ، وَیُذِیقَ بَعْضَکُمْ بَأْسَ بَعْض، ثُمَّ تُخَلَّدُونَ فِی العَذابِ الأَلِیمِ یَوْمَ الْقِیامَةِ بِما ظَلَمْتُمُونا، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِینَ، وَیْلَکُمْ! أَتَدْرُونَ أَیَّةَ یَد طاعَنَتْنا مِنْکُمْ، أَوْ أَیَّةَ نَفْس نَزَعَتْ إِلى قِتالِنا، أَمْ بِأَیَّةِ رِجْل مَشَیْتُمْ إِلَیْنا؟ تَبْغُونَ مُحارَبَتَنا؟! قَسَتْ قُلُوبُکُمْ، وَغَلُظَتْ أَکْبادُکُمْ، وَطُبِعَ عَلى أَفْئِدَتِکُمْ، وَخُتِمَ عَلى سَمْعِکُمْ وَبَصَرِکُمْ، وَسَوَّلَ لَکُمُ الشَّیْطانُ، وَأَمْلى لَکُمْ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِکُمْ غِشاوَةً فَأَنْتُمْ لاتَهْتَدُونَ.
تَبّاً لَکُمْ یا أَهْلَ الکُوفَةِ! کَمْ تِرات لِرَسُولِ اللهِ(صلى الله علیه وآله) قِبَلَکُمْ، وَذُحُولِهِ لَدَیْکُمْ، ثُمَّ غَدَرْتُمْ بِأَخِیهِ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طالِب(علیه السلام)جَدِّی، وَبَنِیهِ عِتْرَةِ النَّبِیِّ الطَّیِّبِینَ الاَخْیارِ، وَافْتَخَرَ بِذلِکَ مُفْتَخِرٌ فَقالَ:
نَحْنُ قَتَلْنا عَلِیّاً وَبَنِی عَلِیٍّ *** بِسُیُوف هِنْدِیَّة وَرِماحِ
وَسَبَیْنا نِساءَهُمْ سَبْیَ تُرْک *** وَنَطَحْناهُمُ فَأَیُّ نِطاح
فقالت: بِفِیکَ أَیُّهَا القائِلُ الکَثْکَثُ، وَلَکَ الأَثْلَبُ، إفْتَخَرْتَ بِقَتْلِ قَوْم زَکّاهُمُ اللهُ وَطَهَّرَهُمْ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، فَاکْظِمْ وَأَقْعِ کَما أَقْعى أَبُوکَ، وَإِنَّما لِکُلِّ امْرِىء ما قَدَّمَتْ یَداهُ، حَسَدْتُمُونا وَیْلا لَکُمْ عَلى ما فَضَّلَنَا اللهُ.
فَما ذَنْبُنا أَنْ جاشَ دَهْراً بُحورُنا *** وَبَحْرُکَ ساج لا یُوارِی الدَّعامِصا
(ذلِکَ فَضْلُ اللهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ)(4)، (وَمَنْ لَمْ یَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُور)(5).
وبعد أن انتهت فاطمة الصغرى(علیها السلام) من خطبتها سکتت وهدأت صلوات الله علیها وعلى أبیها وجدّها(6).
إنّ خطبة بنت الإمام الحسین(علیه السلام) کخطبة عمّتها زینب الکبرى(علیها السلام) تذکّر بخطب الإمام أمیرالمؤمنین(علیه السلام) الزاخرة بالحماسة والشهامة أمام الأعداء.
إنّ کلمات هذه الخطبة ذات المضامین العالیة والمثیرة للمشاعر والتعابیر المفعمة بالحیویة والحقّانیة لا یتوقع أن تصدر من بنت أسیرة ومفجوعة.
إنّ هذه الخطب الغراء تتضمن سلسلة من الحقائق التاریخیة تکشف الغطاء عن أکاذیب ومزاعم أعداء أهل البیت(علیهم السلام) وتعرّیهم عن ادعاءاتهم الواهیة وتفضح خیانتهم وسوء طویّتهم.
إنّ هذه الخطب تکشف الستار عن خواء الإعلام المضاد لبنی اُمیة وتجهض تآمرهم لسنوات مدیدة على الدین وبذلک انقذت الإسلام من خطر شدید کان الأعداء وأعوانهم یتربصون به.
وفی الجملة، فهذه الخطب زرعت نبتة الوعی وسقت شجرة الشهادة لشهداء کربلاء، ولولا هذه الخطب الرائعة لم ینتج عمل الشهداء هذا الأثر العظیم والخالد.