جاء فی الخبر: إنّه لمّا ضاف الأمر بالحسین(علیه السلام) وقد بقی وحیداً فریداً إلتفت إلى خیم بنی أبیه فرآها خالیة منهم، ثم إلتفت الى خیم بنی عقیل فوجدها خالیة منهم، ثم إلتفت إلى خیم أصحابه فلم یر أحداً منهم فجعل یکثر من قوله: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِیِّ الْعَظِیمِ» ثم ذهب إلى خیم النساء فجاء إلى خیمة ولده زین العابدین(علیه السلام)فرأه ملغى على نطع من الأدیم فدخل علیه وعنده زینب غرضه فلما نظر علی بن الحسین(علیه السلام) أراد النهوض فلم یتمکن من شدّة المرض فقال لعمته: سند بنی الى صدرک فهذا این رسول قد أقبل فجلست زینب خلفه واسندته الى صدرها فجعل الحسین(علیه السلام) یسأل ولده عن مرضه وهو یحمدالله تعالى ثم قال:
«یا أبَتاهُ ما صَنَعْتَ الْیَوْمَ مَعَ هؤُلاءِ الْمَنافِقِینَ؟».
فقال(علیه السلام): «یا وَلَدِی قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِکْرَ اللهِ، وَقَدْ شَبَّ الْقِتالُ بَیْنَنا وَبَیْنَهُمْ، لَعَنَهُمُ اللهُ حَتّى فاضَتِ الاَْرْضُ بِالدَّمِ مِنّا وَمِنْهُمْ».
فقال الإمام السجاد(علیه السلام): «یا أَبَتاهُ أَیْنَ عَمِّیَ الْعَبّاسُ».
فجرت دموع زینب(علیها السلام) فقال الحسین(علیه السلام): «یا بُنَیَّ إِنَّ عَمَّکَ قَدْ قُتِلَ، وَقَطَعُوا یَدَیْهِ عَلى شاطِئِ الْفُراتِ».
فبکى(علیه السلام) حتى أغمی علیه فلمّا أفاق جعل یسأل والإمام یجیبه. ثم قال:
«وَأَیْنَ أَخی عَلِیٌّ وَحَبیبُ بْنُ مَظاهِرَ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، وَزُهَیْرُ بْنُ الْقَیْنِ؟».
فقال الحسین(علیه السلام): «یا بُنَیَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَیْسَ فِی الْخِیامِ رَجُلٌ إِلاّ أَنَا وَأَنْتَ، وَأَمّا هؤُلاءِ الَّذِینَ تَسْأَلُ عَنْهُمْ فَکُلُّهُمْ صَرْعى عَلى وَجْهِ الثَّرى».
فبکى السجاد(علیه السلام) وقال لزینب(علیها السلام):
«یا عَمَّتاهُ عَلَیَّ بِالسَّیْفِ وَالْعَصا».
فقال الحسین(علیه السلام):
«وَما تَصْنَعُ بِهِما».
قال السجاد(علیه السلام):
«أَمَّا الْعَصا فَأَتَوَکَّأُ عَلَیْها، وَأَمَّا السَّیْفُ فَأذُبُّ بِهِ بَیْنَ یَدَیْ ابْنِ رَسُولِ اللهِ(صلى الله علیه وآله)فَإِنَّهُ لاَ خَیْرَ فِی الْحَیاةِ بَعْدَهُ».
فضمه الحسین(علیه السلام) إلى صدره وقال:
«یا وَلَدی أَنْتَ أَطْیَبُ ذُرِّیَّتی، وَأَفْضَلُ عِتْرَتی، وَأَنْتَ خَلیفَتی عَلى هؤُلاءِ الْعِیالِ وَالاَْطْفالِ، فَإِنَّهُمْ غُرَباءٌ مَخْذُولٌونَ، قَدْ شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ وَالْیُتْمُ وَشَماتَةُ الاَْعْداءِ وَنَوائِبُ الزَّمانِ سَکِّتْهُمْ إِذا صَرَخُوا، وَآنِسْهُمْ إِذَا اسْتَوْحَشُوا، وَسَلِّ خَواطِرَهُمْ بِلِیْنِ الْکَلامِ، فَإِنَّهُمْ ما بَقِیَ مِنْ رِجالِهِمْ مَنْ یَسْتَأْنِسُونَ بِهِ غَیْرُک، وَلا أَحَدَ عِنْدَهُمْ یَشْکُونَ إِلَیْهِ حُزْنَهُمْ سِواک، دَعْهُمْ یَشُمُّوک وَتَشُمُّهُمْ، وَیَبْکُوا عَلَیْکَ وَتَبْکی عَلَیْهِمْ».
ثم أخذ(علیه السلام) بید ولده وقال:
«یا زَیْنَبُ وَیا أُمَّ کُلْثُومَ وَیا سَکینَةُ وَیا رُقَیَّةُ وَیا فاطِمَةُ، اسْمَعْنَ کَلامی وَاعْلَمْنَ أَنَّ ابْنی هذا خَلیفَتی عَلَیْکُمْ، وَهُوَ إِمامٌ مُفْتَرَضُ الطّاعَةِ».
ثم قال الإمام(علیه السلام):
«یا وَلَدی بَلِّغْ شیعَتی عَنِّیَ السَّلامَ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ أَبی ماتَ غَریباً فَانْدُبُوهُ وَمَضى شَهیداً فَابْکُوهُ»(2).
تفید آخر عبارات هذا الإمام العظیم فی الفداء والتضحیة أنّه کان یتمتع بنفس مطمئنة وهادئة بحیث لم یخطف منه الموت الذی کمن له بضعة أقدام شیئاً، کما لم یعتر روحه وفکره تغییر ـ سوى فی الجوانب العاطفیة ـ بشهادة أعزته وصحبه فحسب، بل کان یزداد ثباتاً ورباطة جأش وکانت تتقد نیران شوقه ولهفته للقاء المحبوب.
وکان الإمام(علیه السلام) یعدّ فی تلک الظروف الحساسة ولده الوحید الإمام السجاد(علیه السلام)للنهوض برسالته الخطیرة فی جنی الثمار التی زرعها فی کربلاء وسقاها بدماء صحبه المیامین. فقدم له وصایاه الأخیرة وأوصى أهل بیته بلزوم طاعته کما لم ینس الإمام(علیه السلام)شیعته وأتباعه فی ذلک الجو العصیب، لیبلغهم مظلومیته بواسطة ولده الوحید لیعلموا أی الوسائل یعتمدون فی مواصلة الدرب.