کتب الإمام الحسین(علیه السلام) فی ردّه على رسالة معاویة(1):
«أَمّا بَعْدُ، فَقَدْ جاءَنِی کِتابُکَ تَذْکُرُ فِیهِ أَنَّهُ انْتَهَتْ إِلَیْکَ عَنّی أُمُورٌ لَمْ تَکُنْ تَظُنُّنِی بِها ... وَإِنَّ الْحَسَناتِ لا یَهْدی لَها وَلا یُسَدِّدُ إِلَیْها إِلاَّ اللهُ تَعالى، وَأَمّا ما ذَکَرْتَ أَنَّهُ رُقِیَ إِلَیْکَ عَنَّی، فَإِنَّما رَقّاهُ الْمُلاقُّونَ الْمَشّاءُونَ بِالَّنمِیمَةِ بَیْنَ الْجَمْعِ، وَکَذِبَ الْغاوُونَ الْمَارِقُونَ، ما أَرَدْتُ حَرْباً وَلا خِلافاً، وَإِنّی لاََخْشَى اللهَ فِی تَرْکِ ذلِکَ مِنْکَ وَمِنْ حِزْبِکَ الْقاسِطیِنَ الُْمحِلِّینَ، حِزْبِ الظّالِمِ، وَأَعْوانِ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ.
أَلّسْتَ قاتِلَ حُجْر وَأَصْحابِهِ الْعابِدِینَ الُْمخْبِتِینَ الَّذِینَ کانُوا یَسْتَفْظِعُونَ الْبِدَعَ، وَیَأْمُروُنَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ؟! فَقَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً مِنْ بَعْدِ مـا أَعْطَیْتَهُمُ الْمَواثیقَ الْغَلِیظَةَ، وَالْعُهُودَ الْمُؤَکَّدَةَ جُرْأَةً وَاسْتِخْفافاً بِعَهْدِهِ.
أَوَ لَسْتَ بِقاتِلِ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الَّذِی أَخْلَقَتْ وَأَبْلَتْ وَجْهَهُ الْعِبادَةُ؟ فَقَتَلْتَهُ مِنْ بَعْدِ ما أَعْطَیْتَهُ مِنَ الْعُهُودِ ما لَوْ فَهِمَتْهُ الْعُصْمُ نَزَلَتْ مِنْ شَعَفِ الْجِبالِ.
أَوَ لَسْتَ الْمُدَّعی زیاداً(2) فِی الاِْسْلامِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ابْنُ أَبی سُفْیانَ، وَقَدْ قَضى رَسُولُ الله(صلى الله علیه وآله) «أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِراشِ وَلِلْعاهِرِ الْحَجَرَ». ثُمَّ سَلَّطْتَهُ عَلى أَهْلِ الاِْسْلامِ یَقْتُلُهُمْ وَیُقَطِّعُ أَیْدِیَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاف، وَیُصَلِّبُهُمْ عَلى جُذُوعِ النَّخْلِ؟
سُبْحانَ اللهِ یا مُعاوِیَةُ! لَکَأَنَّکَ لَسْتُ مِنْ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَلَیْسُوا مِنْکَ أَوَ لَسْتَ قاتِلَ الْحَضْرَمِیَّ الَّذِی کَتَبَ إِلَیْکَ فیهِ زِیادُ أَنَّهُ عَلى دینِ عَلیّ کَرَّمَ الله وَجْهَهُ، وَدینُ عَلیٍّ هُوَ دینُ ابْنُ عَمِّهِ(صلى الله علیه وآله) الَّذی أَجْلَسَکَ مَجْلِسَکَ الَّذی أَنْتَ فیهِ وَلَوْلا ذلِکَ کانَ شَرَفُکَ وَشَرَفُ آبائِکَ تَجَشُّمَ الرِّحْلَتَیْنِ(3): رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّیْفِ، فَوَضَعَهَا اللهُ عَنْکُمْ بِنا مِنَّةً عَلَیْکُمْ، وَقُلْتَ فیما قُلْتَ: لا تَرُدَّنَّ هذِهِ الاُْمَّةَ فِی فِتْنَة. وَإِنّی لا أَعْلَمُ لَها فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ إِمارَتِکَ عَلَیْها.
وَقُلْتَ فیما قُلْتَ: أُنْظُرْ لِنَفْسِکَ وَلِدِیِنکَ وَلاُِمَّةِ مُحَمَّد. وَإِنّی وَاللهِ ما أَعْرِفُ أَفْضَلَ مِنْ جِهادِک، فَإِنْ أَفْعَلْ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ إِلى رَبِّی، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِدینی، وَأَسْأَلُهُ التَّوْفیقَ لِما یُحِبُّ وَیَرْضى.
وَقُلْتَ فیما قُلْتَ: مَتى تَکِدْنِی أَکِدْک، فَکِدْنی یا مُعاوِیَةُ فیما بَدالَکَ، فَلَعَمْری لَقَدیماً یُکادُ الصّالِحُونَ، وَإِنّی لاََرْجُو أَنْ لا تُضِرَّ، إِلاَّ نَفْسَکَ وَلا تَمْحَقُ إِلاّ عَمَلَکَ، فَکِدْنی ما بَدالَکَ، وَاتَّقِ اللهَ یا مُعاوِیَةُ! وَاعْلَمْ أَنَّ للهِ کِتاباً لا یُغادِرُ صَغیرَةً وَلا کَبیرَةً إِلاّ أَحْصاها، وَأَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَیْسَ بِناس لَکَ قَتْلَکَ بِالظَّنَّةِ، وَأَخْذَک بِالتُّهْمَةِ، وَإِمارَتَکَ صَبیّاً یَشْرَبُ الشَّرابَ، وَیَلْعَبُ بِالْکِلابِ، ما أَراک إِلاّ قَدْ أَوْبَقْتَ نَفْسَکَ، وَأَهْلَکْتَ دِینَکَ، وَأَضَعْتَ الرَّعِیَّةَ وَالسَّلامُ»(4).
إنّ هذه الرسالة الشجاعة والرصینة والدقیقة للإمام الحسین(علیه السلام) وفی ذلک الزمان الذی لا یمتلک فیه قدرة ظاهریة إزاء سلطان ظالم وجبار کمعاویة الذی یسیطر على کل شیء، الرسالة التی تفضح التاریخ المشین لبنی أمیة وتعرض لهم بالنقد، تشیر إلى أنّ الإمام (علیه السلام)لم یتخل عن وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر حتى على عهد اقتدار معاویة، وینعت حکومة معاویة صراحة باللا إسلامیة واللا إنسانیة.
وقد أشار(علیه السلام) فی رسالته إلى ثلاث وقائع من التاریخ الأسود لمعاویة وکل واحدة منها یندى لها جبین التاریخ:
الأولى: سفک دماء المؤمنین الأتقیاء الذین یعدون أسوة الجهاد ومقاومة الظلم مثل «حجر بن عدی» و«عمرو بن الحمق».
الثانیة: إحیاء سنن الجاهلیة ومخالفة القانون الإسلامی «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
الثالثة: منح المناصب الحساسة فی البلاد الإسلامیة لأغلب الرجال عدیمی الشخصیة.
وأخیراً یعتبر الإمام(علیه السلام)فی هذه الرسالة جهاد الجهاز الفرعونی لمعاویة من أهم آماله ولا یشعر بأدنى وجل من تهدیده ووعیده.