آیات بحثنا هی آخر آیات سورة (ص)، وفی الحقیقة هی خلاصة لکلّ محتوى هذه السورة، ونتیجة للأبحاث المختلفة التی تناولتها السورة.
فی البدایة ردّاً على تهدید إبلیس فی إغواء کلّ بنی آدم عدا المخلصین منهم، یجیبه الباریء عزّوجلّ بالقول: (قال فالحقّ والحقّ أقول ) (1) أقسم بالحقّ، ولا أقول إلاّ الحقّ (لأملئنّ جهنّم منک وممّن تبعک منهم أجمعین ).
فما ورد فی بدایة السورة إلى هنا حقّ، والذی ورد بشأن أحوال الأنبیاء الکبار فی هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حقّ، والحدیث فی هذه السورة عن القیامة والعذاب الألیم الذی سینزل بالطغاة والنعم التی سیغدقها الباریء عزّوجلّ على أهل الجنّة حقّ، ونهایة السورة حقّ، والله سبحانه یقسم بالحقّ ویقول الحقّ بأنّه سیملأ جهنّم بالشیطان وأتباعه، وذلک جواب قاطع على کلام إبلیس بشأن إغوائه بنی الإنسان، وبهذا وضّح الباریء عزّوجلّ تکلیف الجمیع.
على أیّة حال، فإنّ هاتین الجملتین تشتملان على الکثیر من التأکید، فتؤکّدان مرتین على مسألة (الحقّ) وتقسمان بها، وعبارة (لأملأنّ) رافقتها نون التوکید الثقیلة و(أجمعین) تأکید مجدّد على کلّ ذلک، لکی لا یبقى لأحد أدنى شکّ وتردید بهذا الشأن، إذ لا سبیل لنجاة الشیطان وأتباعه، والاستمرار بالسیر على خطاه یؤدّی إلى جهنّم.
وفی نهایة هذا البحث یشیر الباریء عزّوجلّ إلى أربعة اُمور فی عدّة عبارات قصیرة وواضحة؟
ففی المرحلة الاُولى یقول: (قل ما أسألکم علیه من أجر ).
وبهذا وضع النّبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) حدّاً لذرائع المتذرّعین، وبیّن أنّه لا یبتغی من وراء ذلک سوى نجاة وسعادة البشر، وأنّه لا یرید منهم أیّ جزاء مادّی أو معنوی، ولا إستحسان ولا شکر، ولا مقام ولا حکومة، وإنّما أجری على الله، کما ذکرت ذلک آیات اُخرى فی القرآن المجید کالآیة 47 من سورة سبأ، والتی تقول: (إن أجری إلاّ على الله ).
وهذه هی إحدى دلائل صدق رسول الله (صلى الله علیه وآله)، لأنّ الداعیة الکذّاب إنّما یدعو للوصول إلى أطماع شخصیّة، وهذه الأطماع تظهر بشکل أو بآخر من خلال حدیثه، والعکس ما نراه فی شخصیّة رسولنا الکریم (صلى الله علیه وآله).
وفی المرحلة الثانیة یقول: أنا لست من المتکلّفین، فکلامی مستند على الأدلّة والمنطق، ولا یوجد فیه أی تکلّف، وعباراتی واضحة وکلامی خال من الغموض واللفّ والدوران (وما أنا من المتکلّفین ).
وفی الواقع فإنّ المرحلة الاُولى تتناول أوصاف الداعیة، والمرحلة الثانیة تتطرّق لسبل الدعوة ومحتواها.
أمّا المرحلة الثالثة فتبیّن الهدف الأصلی من هذه الدعوة الکبیرة من نزول هذا الکتاب السماوی (إن هو إلاّ ذکر للعالمین ).
نعم، المهمّ هو أن یوقظ الناس من غفلتهم ویجعلهم یتعمّقون فی التفکیر، لأنّ الطریق واضح، وعلاماته ظاهرة، والفطرة السلیمة فی داخل الإنسان تمثّل دافعاً قویّاً تدفع الإنسان إلى سبیل التوحید والتقوى، فالمهمّ هو الصحوة، وهذه هی الرسالة الرئیسیّة للأنبیاء ولکتبهم السماویة.
هذه العبارة وردت مرّات عدیدة فی القرآن، وکلّها تبیّن أنّ محتوى دعوة الأنبیاء فی کلّ المراحل یتناسب مع الفطرة التی فطرنا علیها الباریء عزّوجلّ، وأنّ الإثنین یسیران معاً إلى الأمام.
وأمّا فی المرحلة الرابعة والأخیرة، فإنّه یهدّد المعارضین والمخالفین بعبارة قصیرة غزیرة المعنى: (ولتعلمنّ نبأه بعد حین ).
یقول: من الممکن أن لا تأخذوا هذا الکلام مأخذ الجدّ، وتمرّون به مرّ الکرام، إلاّ أنّه
سیثبت لکم عاجلا صدق کلامی، سیثبت فی هذا العالم فی ساحات قتال الإسلام ضدّ الکفر، وفی ساحات العمل الاجتماعی والفکری، وفی العالم الآخر بواسطة العذاب الإلهی الألیم الذی ستعذّبون به، وخلاصة الأمر أنّ السوط الإلهی مهیّأ للنزول على المستکبرین والظالمین.
1. ترکیب هذه الجملة له عدّة إحتمالات، فمن الممکن أن تکون (الحقّ) مبتدأ و(قسمی) خبر محذوف للمبتدأ، ومن الممکن أن یکون (قولی) خبره (فالحقّ قولی) ویوجد إحتمال آخر هو أنّ (الحقّ) خبر مبتدأ محذوف والتقدیر (هذا هو الحقّ) أو (أنا الحقّ).
