تتحدّث هاتان الآیتان ـ استناداً إلى ما مرّ فی الآیات السابقة ـ عن الغفلة المستمرّة لمجموعة کبیرة من البشر فی هذا العالم على مرّ العصور والقرون، فتقول الآیة: (ألم یروا کم أهلکنا قبلهم من القرون ) (1) .
فهؤلاء الکفّار لیسوا بدعاً من الأمر، فقد کان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا فی هذه الدنیا، ومصائرهم الألیمة التی ملأت صفحات التاریخ، والآثار المعبّرة التی بقیت فی مدنهم المدمّرة، کلّها شاخصة أمام العیان، فهل یکفی ذلک المقدار لتحقّق العبرة والاعتبار؟
ولکن على من یعود ضمیر الجمع فی (ألم یروا )؟
احتمل المفسّرون عدّة وجوه:
الأوّل: أنّه یعود على «أصحاب القریة» الذین تحدّثت الآیات السابقة حولهم.
والثانی: أنّه یعود على «أهل مکّة» الذین نزلت هذه الآیات لتنبیههم.
ولکن یُستدلّ من الآیة السابقة (یاحسرة على العباد... ) على أنّ المقصود هو جمیع البشر، إذ إنّ کلمة «العباد» فی الآیة المذکورة تشمل جمیع البشر على طول التاریخ، الذین ما إن جاءهم الأنبیاء حتى هبّوا لمخالفتهم وتکذیبهم والاستهزاء بهم، وعلى کلّ حال فهی دعوة لجمیع البشر بأن یتأمّلوا فی تأریخ القدماء، ویعتبروا من آثارهم التی خلّفوها، بفتح قلوبهم وبصائرهم.
فی آخر الآیة یضیف تعالى: (أنّهم إلیهم لا یرجعون ) (2) .
أی أنّ المصیبة الکبرى فی إستحالة رجوعهم إلى هذه الدنیا لجبران ما فاتهم وتبدیل ذنوبهم حسنات، لأنّهم دمّروا کلّ الجسور خلفهم، فلم یبق لهم سبیل للرجوع أبداً.
هذا التّفسیر یشبه بالضبط ما قاله أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه أفضل الصلاة والسلام) حینما تحدّث فی أخذ العبرة من الموتى فقال: «لا عن قبیح یستطیعون إنتقالا ولا فی حسن یستطیعون إزدیاداً». (3)
وتضیف الآیة التالیة (وإن کلّ لمّا جمیع لدینا محضرون ) (4) .
أی أنّ المسألة لا تنتهی بهلاکهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنیا، کلاّ فانّ الموت فی الحقیقة بدایة الشوط ولیس نهایته، فعاجلا سیحضر الجمیع فی عرصة المحشر للحساب، ثمّ العقاب الإلهی المتلاحق والمستمر فی إنتظارهم.
إذا کانت الحال کذلک أفلا ینبغی علیهم الاعتبار من مصیر هؤلاء السابقین لهم، والاستفادة من الفرصة قبل الفوت للإبتعاد عن مواجهة ذلک المصیر المشؤوم.
نعم، فلو کان الموت خاتمة لکلّ شیء، لکان ممکناً أن یقولوا بأنّه بدایة راحتهم، ولکن یاحسرة!! وکما یقول الشاعر:
ولو أنّا إذا متنا ترکنا *** لکان الموت راحة کلّ حیٍّ
ولکنّا إذا متنا بعثنا *** ونُسأل بعده عن کلّ شیء