الإمعان فی آیات القرآن الکریم یبیّن أنّ کلمة (مخلِص) بکسر اللام، قد استخدمت بکثرة فی المواقع التی تتحدّث عن حالة الإنسان الذی یعیش مراحل بناء نفسه، ولم یصل إلى التکامل، أمّا کلمة (مخلَص) بفتح اللام، فتطلق على مرحلة وصل فیها الإنسان إلى مرتبة یصان فیها من نفوذ وساوس الشیطان إلى قلبه، بعد أن إجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإیمان، کما أنّ القرآن ینقل عن إبلیس الخطاب التالی لله سبحانه وتعالى (فبعزّتک لأغوینّهم أجمعین * إلاّ عبادک منهم المخلصین ). (1)
هذه الآیة تکرّرت عدّة مرّات فی القرآن، وهی توضّح عظمة مقام المخلصین، مقام یوسف الصدّیق بعد أن عبر ساحة الإختبار الکبیرة بنجاح، وأمثاله من المخلصین (کذلک لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصین ) أی نحن أظهرنا البراهین لیوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء، لأنّه من عبادنا المخلصین. 21)
فمقام المخلَصین لا یناله إلاّ من إنتصر فی الجهاد الأکبر، وشمله اللطف الإلهی بإزالة کلّ شیء غیر خالص من وجوده، ولا تبقى فیه سوى النفس الطاهرة الخالصة ـ کالذهب الخالص ـ عند إذابتها فی أفران الحوادث والاختبار، وهنا فإنّ مکافأتهم لا تتمّ وفق معیار أعمالهم، وإنّما معیار مکافأتهم هو الفضل والرحمة الإلهیّة.
والعلاّمة الطباطبائی رحمة الله علیه یقول بهذا الشأن:
«یقول الله سبحانه وتعالى فی هذه الآیة، إنّ کافّة الناس یأخذون مکافأة أعمالهم إلاّ العباد المخلصین له، لأنّهم یدرکون بأنّهم عبید الله، والعبد هو الذی لا یملک لنفسه شیئاً من إرادة ولا عمل، فهؤلاء لا یریدون إلاّ ما أراده الله ولا یعملون إلاّ له، ولکونهم من المخلصین، فقد أخلصهم لنفسه، ولا تعلّق لهم بشیء غیر ذات الله تعالى، فقلوبهم خالیة من حبّ الدنیا وزخارفها، ولیس فیها إلاّ الله سبحانه.
ومن المعلوم أنّ من کانت هذه صفته کان التذاذه وتنعّمه بغیر ما یلتذّ ویتنعّم به غیره، وإرتزاقه بغیر ما یرتزق به سواه، وإن شارکهم فی ضروریات المأکل والمشرب، ومن هنا یتأیّد أنّ المراد بقوله: (اُولئک لهم رزق معلوم ) (3) الإشارة إلى أنّ رزقهم فی الجنّة رزق خاص لا یشبه غیره، (وأنّهم یرزقون من مظاهر ذات الله الطاهرة، وقلوبهم متعطّشة إشتیاقاً لله، وغارقة فی العشق والوصول إلى الله) (4) .
1. ص، 82 و83.
2. یوسف، 24.
3. الصافات، 41.
4. تفسیر المیزان، ج 17، ص 141.
