الدلیل الأول: الکتاب

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
أنوار الاُصول (الجزء الثانی)
أدلّة القائلین بحجّیة خبر الواحدالدلیل الثانی: السنّة

فاستدلّوا منه بآیات:

1 ـ آیة النبأ

قال الله تعالى: (إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ)(1).

قال الطبرسی (رحمه الله) فی مجمع البیان: «قوله «إن جاءکم فاسق» نزل فی الولید بن عقبة بن أبی معیط بعثه رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی صدقات بنی المصطلق فخرجوا یتلقّونه فرحاً به وکانت بینهم عداوه فی الجاهلیة فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله) وقال إنّهم منعوا صدقاتهم، وکان الأمر بخلافه، فغضب النبی (صلى الله علیه وآله)وهمّ أن یغزوهم فنزلت الآیة»(2).

ثمّ قال: «عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة» ثمّ ذکر قولا آخر فی شأن نزول الآیة وهو لا یناسب مضمون الآیة وکلمة القوم المذکورة فیها.

وقد إستشکل بعض العامّة فی شأن النزول المذکور بأنّ الولید آمن یوم فتح مکّة وکان صبیّاً.

ومن المحتمل جدّاً کون الخبر مجعولا لتنزیه الولید وتبرئته من ناحیة بعض من له صلة بالخلفاء لکونه أخاً لعثمان من جانب الاُمّ.

إن قلت: فکیف أرسله الرسول (صلى الله علیه وآله) لأخذ الزکوات مع أنّه کان فاسقاً؟

قلنا: لعلّ الولید کان ظاهر الصلاح وکان فسقه أمراً مخفیّاً مستتراً وکان الرسول (صلى الله علیه وآله)أیضاً یعمل بحسب الظاهر ولم یکن بنائه على العمل بالغیب.

هذا مضافاً إلى أنّه یمکن أن یقال: إنّ معنى علمه (صلى الله علیه وآله) وعلم الأئمّة (علیهم السلام)بالغیب إنّهم «إذا شاؤوا أن یعلموا علموا» کما ورد فی الحدیث المشهور.

وأمّا الاستدلال بالآیة فله ثلاثة وجوه: أحدها: الاستدلال بمفهوم الشرط، والثانی: بمفهوم الوصف، والثالث: بمناسبة الحکم والموضوع.

وقبل ذکر هذه الوجوه ونقدها نقول: لو اُعطیت هذه الآیة بید العرف یفهم منها حجّیة خبر العادل وأنّه لا ندامة فی العمل به ولو لم یعلم منشأ هذه الدلالة.

ثمّ نقول: أمّا مفهوم الوصف: فإن قلنا بکبرى مفهوم الوصف فلا إشکال فی مفهوم کلمة الفاسق فی الآیة، فتدلّ على عدم لزوم التبیّن فی خبر العادل وحجّیته، لکن المشهور عدم حجّیة مفهوم الوصف خصوصاً فی الوصف غیر المعتمد على الموصوف کما فی المقام فإنّه حینئذ أشبه بمفهوم اللقب عندهم.

لا یقال: فما هو الفائدة فی ذکر هذا الوصف، ولماذا لم یرد فی الآیة هکذا: «إذا جاءک إنسان بنبأ ... الخ»؟ لأنّه یقال: إنّه ورد للتنبیه على فسق الولید.

لکن الإنصاف أنّ للوصف مفهوماً کما مرّ فی مبحث المفاهیم خصوصاً فی مثل ما نحن فیه حیث یکون فی مقام إعطاء ضابطة کلّیة بملاحظة صدرالآیة (وهو قوله تعالى: (یا أیّها الذین آمنوا...).

والقول بکونه تنبیهاً على فسق الولید کلام غیر وجیه لأنّ الآیات لا تکون مختصّة بعصر دون عصر وبشخص دون شخص بل إنّها هدى للناس فی جمیع الأعصار، ولعلّ هذا هو منشأ الفهم العرفی المذکور آنفاً.

وأمّا مفهوم الشرط: فللقائلین به بیانات مختلفة:

الأوّل: أنّه تعالى علّق وجوب التبیّن على مجیء الفاسق بالنبأ، فإذا انتفى ذلک سواء انتفى بانتفاء الموضوع أی «إذا لم یجیء أحد بخبر» أو انتفى بانتفاء المحمول أی «إذا جاء شخص بخبر وکان عادلاً» ینتفی وجوب التبیّن فیستدلّ بإطلاق المفهوم لعدم وجوب التبیّن فی خبر العادل وأنّه حجّة.

لکن یرد علیه: أنّ القضیّة الشرطیّة هیهنا لیس لها مفهوم لأنّها سیقت لبیان تحقّق الموضوع مثل قولک: «إن رزقت ولداً فسمّه محمّداً» بمعنى أنّ الجزاء موقوف على الشرط عقلا لا شرعاً وبجعل الشارع من دون توقّف عقلی فی البین، فعند انتفاء الشرط حینئذ انتفاء الجزاء عقلی من قبیل قضیّة السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة بانتفاء المحمول مع وجود موضوعه (وانتفاء المحمول والحکم یکون بواسطة انتفاء ما علّق علیه من شرط أو وصف).

الثانی: ما أفاده المحقّق الخراسانی (رحمه الله) وحاصله: أنّ الحکم بوجوب التبیّن عن النبأ الذی جیء به معلّق على کون الجائی به فاسقاً (لا على نفس مجیء الفاسق بالنبأ) بحیث یکون المفهوم هکذا: «إن لم یکن الجائی بالنبأ فاسقاً بل کان عادلا فلا یجب التبیّن عنه».

ویمکن الجواب عنه: بأنّه کذلک لو کانت الآیة هکذا: «النبأ إن جاء به الفاسق فتبیّنوا» بأن یکون الموضوع القدر المطلق المشترک بین نبأ الفاسق والعادل لأنّ القضیّة حینئذ لیست مسوّقة لبیان تحقّق الموضوع، لکن الإشکال فی أنّ مفاد الآیة لیس کذلک کما هو ظاهر فالإشکال بعدم المفهوم وارد.

الثالث: ما أشار إلیه المحقّق الخراسانی (رحمه الله)أیضاً بقوله: «مع أنّه یمکن أن یقال: إنّ القضیّة ولو کانت مسوقة لذلک إلاّ أنّها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبیّن فی النبأ الذی جاء به الفاسق ...».

وحاصله: أنّ القضیّة الشرطیّة فی الآیة وإن کانت مسوقة لبیان تحقّق الموضوع ولکنّها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبیّن بنبأ الفاسق فقط، ومقتضاه أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مکانه کنبأ العادل لم یجب التبیّن عنه.

وهذا البیان والبیان السابق فی مخالفتهما لظاهر الآیة سیّان.

وأمّا مناسبة الحکم والموضوع: فقد اُشیر إلیها فی کلمات الشیخ الأعظم(رحمه الله)وغیره وتوضیحها: أنّ ظاهر الآیة کون الفسق موجباً لعدم الاعتماد والاعتبار، أی أنّ التبیّن یناسب عدم الاعتبار، وهذه المناسبة تقتضی عرفاً عدم وجوب التبیّن فی خبر العادل المعتبر المعتمد.

هذا کلّه هو طرق الاستدلال بآیة النبأ، وقد ظهر أنّ الطریق الأوّل والثالث تامّ خلافاً للطریق الثانی.

لکن قد أورد على الآیه إشکالات کثیرة ربّما تبلغ إلى نیف وعشرین کما قال به الشیخ الأعظم (رحمه الله) وقال أیضاً: «إلاّ أنّ کثیراً منها قابلة للدفع»، واختار المحقّق الخراسانی (رحمه الله) أربعة منها وذکرها فی تعلیقته على الرسائل وقد أضاف إلیها بعض المعاصرین عدّة اُخرى، ونحن نذکر هنا أهمّها وهی خمسة:

الإشکال الأوّل: ما یرتبط بالتعلیل الوارد فی ذیل الآیة، وهو أنّ مقتضى عموم التعلیل وجوب التبیّن فی کلّ خبر ظنّی لا یؤمن الوقوع فی الندم من العمل به وإنّ کان المخبر عادلا فیعارض المفهوم، والترجیح مع ظهور التعلیل.

بیانه: لو قلنا أنّ الآیة الشریفة تدلّ مفهوماً على أنّ خبر العادل حجّة مطلقاً ولو لم یفد العلم لکن التعلیل بقوله تعالى: (أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ)دلیل على أنّ الخبر الذی لا یؤمن الوقوع فی الندم من العمل به لیس بحجّة، ولو کان المخبر عادلا (لأنّ العلّة قد تعمّم کما أنّها قد تخصّص) وحینئذ الترجیح مع ظهوره التعلیل لکونه أقوى وآبیاً عن التخصیص مضافاً إلى کونه منطوقاً لا مفهوماً.

واُجیب عنه بوجوه:

الوجه الأول: أنّ مقتضى التعلیل لیس هو عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع مطلقاً، لأنّ المراد بالجهالة هنا السفاهة وفعل ما لا یجوز فعله، لا ما یقابل العلم، ولا شبهة فی أنّه لا سفاهة فی الرکون إلى خبر العدل والاعتماد علیه.

إن قلت: یستلزم هذا کون اعتماد الصحابة على خبر الولید الفاسق سفیهاً، وهو کما ترى.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائینی (رحمه الله) بأنّه ربّما یرکن الشخص إلى ما لا ینبغی الرکون إلیه غفلةً أو لاعتقاده عدالة المخبر، والآیة هنا نزلت للتنبیه على غفلة الصحابة أو لسلب اعتقادهم عن عدالة الولید، أی رکون الصحابة إلى خبر الولید لم یکن من باب الإقدام على أمر سفهی بل من جهة عدم علمهم بفسق الولید.

أقول: الجهالة فی لغة العرب وإن کان قد تأتی بمعنى السفاهة ولکن الأصل فی معناها هو ضدّ العلم کما نطقت به کتب اللغة، فحینئذ حمل الآیة على المعنى الأوّل مشکل جدّاً، ویؤیّد ما ذکرنا ملاحظة موارد استعمال هذه الکلمة فی القرآن الکریم.

الوجه الثانی: «أنّه على فرض أن یکون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا یعارض عموم التعلیل للمفهوم، بل المفهوم یکون حاکماً على العموم لأنّه یقتضی إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً له وکاشفاً عنه، وکأنّه یقول: «نزّل خبر العادل بمنزلة العلم» فلا یشمله عموم التعلیل لا لأجل تخصیصه بالمفهوم لکی یقال: إنّه یأبى عن التخصیص بل لحکومة المفهوم علیه»(3).

ویرد علیه: إنّ لسان الآیة لیس لسان الدلیل الحاکم ولا یساوق مفهومها قولک: «الغ احتمال الخلاف» بل تدلّ على أنّه إذا جاءکم عادل بنبأ فلا یجب التبیّن بل یجب القبول.

نعم هذا صادق بالنسبة إلى جملة من سائر الأدلّة لحجّیة خبر الواحد کقوله(علیه السلام): «ما أدّیا عنّی فعنّی یؤدّیان».

الوجه الثالث: ما أجاب به شیخنا العلاّمة(رحمه الله) فی الدرر وهو: «أنّ التعلیل لا یدلّ على عدم جواز الاقدام بغیر العلم مطلقاً بل یدلّ على عدم الجواز فیما إذا کان الاقدام فی معرض حصول الندامة، واحتماله منحصر فیما لم یکن الاقدام عن حجّة فلو دلّت الآیة بمفهومها على حجّیة خبر العادل فلا یحتمل أن یکون الإقدام على العمل به مؤدّیاً إلى الندم فلا منافاة بین التعلیل ومفهوم الآیة أصلا»(4).

ویمکن أن یقال فی توضیح ما أفاده بأنّ الموجب للندم هو ما کان معرضاً للندامة غالباً وخبر العادل لیس کذلک، ووقوع الخطأ فیه أحیاناً کوقوع الخطأ فی العلم لا یوجب الندم ولا ترک العمل به.

الوجه الرابع: أنّه فرق بین الجهل والعلم فی مصطلح المنطق وفی العرف واللغة فالعلم المصطلح فی المنطق هو درجة المائة فی المائة من الیقین، وفی مقابله الجهل المصطلح، وأمّا العلم العرفی الاُصولی فلیس بتلک الدرجة بل یعدّ العمل بالظواهر وما أشبهها من العمل بالعلم عند العرف وإن لم یکن علماً قطعیّاً.

هذا کلّه بالنسبة إلى الإشکال الأوّل الوارد على الاستدلال بالآیة.

الإشکال الثانی: أنّه على تقدیر دلالة الآیة على المفهوم یلزم خروج المورد عن مفهوم الآیة لأنّ موردها وهو الإخبار عن ارتداد جماعة (وهم بنو المصطلق) من الموضوعات فلا یثبت بخبر العدل الواحد، وخروج المورد أمر مستهجن عند العرف فیکشف عن عدم المفهوم للآیة المبارکة.

وفیه: أوّلا: نحن فی فسحة عن هذا الإشکال، لأنّ المختار حجّیة خبر الواحد حتّى فی الموضوعات، (إلاّ فی باب القضاء لما ورد فیه من دلیل خاصّ بل لابدّ فیه فی بعض الموارد من قیام أکثر من اثنین من الشهود).

ثانیاً: أنّ هذا ینافی إطلاق المفهوم لا أصله حیث إنّه یدلّ على حجّیة خبر العادل مطلقاً، وقد قیّد هذا الإطلاق فی موارد الموضوعات بضمّ عدل آخر وعدم الاکتفاء بعدل واحد، وهذا لا ینافی حجّیة أصل المفهوم، فلو دلّت علیها الآیة الشریفة لم یکن تقیید إطلاقه بالنسبة إلى مورده مانعاً عن تحقّقه، والذی لا یجوز فی الکلام إنّما هو خروج المورد برأسه لا ما إذا کان داخلا مع قید أو شرط.

الإشکال الثالث: أنّه لو دلّت الآیة على حجّیة خبر الواحد لکان الإجماع الذی إدّعاه السیّد (رحمه الله) على عدم حجّیة خبر الواحد أیضاً حجّة لأنّه من مصادیق خبر الواحد، فیلزم من حجّیة خبر الواحد عدم حجّیته، وهو من قبیل ما یلزم من وجوده عدمه وهو محال.

والجواب عن هذا واضح صغرى وکبرى، أمّا الکبرى: فلما مرّ من أنّ خبر الواحد لا یعمّ هذا القبیل من الإجماعات لأنّها من أقسام الإجماع الحدسی لا الحسّی.

وأمّا الصغرى: فلأنّا نعلم بأنّ ما إدّعاه السیّد المرتضى (رحمه الله) من الإجماعات مبنیّة على أصل أو قاعدة، ولیست بمعنى الإجماع على مسألة خاصّة.

الإشکال الرابع: تعارض هذه الآیة مع الآیات الناهیّة عن العمل بغیر علم، والنسبة بینهما العموم من وجه فتتعارضان فی مورد الاجتماع وهو خبر العادل الذی یوجب الظنّ بالحکم فتقدّم الآیات الناهیّة على هذه الآیة لکونها أقوى ظهوراً.

والجواب عن هذا ظهر ممّا سبق فی مقام التعرّض للآیات الناهیّة، فقد قلنا هناک أنّ المقصود من الظنّ الوارد فی تلک الآیات هو الأوهام والخرافات التی لا أساس لها وعلیه لا تعارض بینهما.

الإشکال الخامس: (وهو المهمّ) ما لا یختصّ بآیة النبأ بل یرد على جمیع أدلّة حجّیة خبر الواحد، وهو عدم شمول أدلّة الحجّیة للأخبار مع الواسطة مع أنّ المقصود من حجّیة خبر الواحد هو إثبات السنّة بالأخبار التی وصلت إلینا مع الواسطة عن الحجج المعصومین (علیهم السلام).

ویمکن بیانه بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة.

الوجه الثانی: اتّحاد الحکم والموضوع ببیان: أنّ حجّیة الخبر التی یعبّر عنها بوجوب تصدیق العادل إنّما هی بلحاظ الأثر الشرعی الذی یترتّب على المخبر به، إذ لو لم یکن له أثر شرعی کانت الحجّیة لغواً ولا یصحّ التعبّد به، ومن المعلوم لزوم تغایر کلّ حکم مع موضوعه فإذا لم یکن فی مورد أثر شرعی للخبر إلاّ نفس وجوب التصدیق الثابت بدلیل حجّیة الخبر لم یمکن ترتیب هذا الأثر، لما سبق من وحدة الحکم والموضوع وهو محال والمقام من هذا القبیل لأنّه إذا أخبرنا الصدوق (رحمه الله)مثلا بقوله: «قال الصفّار قال:«الإمام العسکری (علیه السلام) ...» لم یترتّب على إخبار الصدوق سوى وجوب تصدیق قول الصفّار لأنّ الأثر العملی إنّما یترتّب على قول المعصوم فقط لا غیر. وحینئذ فوجوب تصدیق الصدوق بمقتضى آیة النبأ حکم وموضوعه (أی الأثر المترتّب على خبر الصدوق) أیضاً وجوب تصدیق الصفّار، فیلزم اتّحاد الحکم والموضوع، وهو محال.

وإن شئت قلت: یلزم اتّحاد الحکم والموضوع أو کون الحکم ناظراً إلى نفسه.

توضیحه: إذا قلنا بدلالة الآیة على حجّیة خبر الواحد یلزم أن یکون الأثر الذی بلحاظه وجب تصدیق العادل (أی الأثر الذی یکون موضوعاً لحکم وجوب التصدیق) نفس تصدیقه من دون أن یکون فی البین أثر آخر کان وجوب التصدیق بلحاظه، مع أنّ وجوب التعبّد بالشیء لابدّ وأن یکون بلحاظ ما یترتّب على الشیء من الآثار الشرعیّة، وإلاّ فلو فرضنا خلوّ الشیء عن الأثر الشرعی لما صحّ إیجاب التعبّد الشرعی به، وعلیه فلو کان الراوی حاکیاً قول الإمام فوجوب التصدیق بلحاظ ما یترتّب على قول الإمام (علیه السلام) من الآثار، کحرمة الشیء ووجوبه، ولو کان المحکی قول غیره کحکایة الصدوق (رحمه الله) قول الصفّار فالأثر المترتّب على قول الصفّار لیس إلاّ وجوب تصدیقه، فیلزم اتّحاد الحکم (وجوب التصدیق) والموضوع (الأثر الشرعی) وکون الحکم ناظراً إلى نفسه.

الوجه الثالث: لزوم إیجاد الحکم لموضوعه مع أنّه لابدّ من وجود الموضوع فی الرتبة السابقة على الحکم، فإنّ الشیخ إذا أخبر عن المفید(رحمه الله) وهو عن الصدوق(رحمه الله) فالمصداق الوجدانی لنا هو قول الشیخ، فیجب تصدیقه، وأمّا قول المفید(رحمه الله) إلى أن ینتهی إلى الإمام فإنّما یصیر مصداقاً لموضوع قولنا: «صدق العادل» بعد تصدیق الشیخ (قدس سره) فیلزم إثبات الموضوع بالحکم، وهو محال.

وقد اُجیب عن هذا الإشکال: تارةً بأنّ لزوم وجود الموضوع فی الرتبة السابقة على الحکم إنّما هو فی القضایا الخارجیّة مع أنّ أدلّة الحجّیة من القضایا الحقیقیّة الشاملة للموضوعات المحقّقة والمقدّرة، ولا مانع فیها من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها.

واُخرى بأنّه سلّمنا کون منصرف الآیة الإخبار بلا واسطة إلاّ أنّ العرف یلغی الخصوصیّة.

وثالثة: بأنّ الإجماع المرکّب قام على أنّ خبر الواحد إمّا حجّة مطلقاً (سواء کان مع الواسطة أو بلا واسطة) أو لیس بحجّة کذلک.

وفیه: بما أن هذه المسألة معلومة المدرک فلا فائدة فی الإجماع البسیط فیها فضلا عن الإجماع المرکّب.

ورابعة: بأنّ المحال إنّما هو إثبات الحکم موضوع شخص الحکم لا إثباته موضوع فرد آخر من الحکم، فإنّ خبر الشیخ المحرز بالوجدان یجب تصدیقه وبتصدیقه یحصل لنا موضوع آخر، وهو خبر المفید(رحمه الله)، وله وجوب تصدیق آخر وهکذا.

وخامسة: بأنّه یکفی فی صحّة التعبّد کون المتعبّد به ممّا له دخل فی موضوع الحکم ولا دلیل على لزوم ترتّب تمام الأثر علیه، ففی ما نحن فیه حیث تنتهی سلسلة الأخبار إلى قوله (علیه السلام)فلکلّ واحد منها دخل فی إثبات قوله الذی له الأثر الشرعی، وهذا المقدار کاف فی صحّة التعبّد به، فلیس هنا أحکام متعدّدة حتّى یستشکل باتّحاد الحکم والموضوع وغیر ذلک بل هنا حکم واحد، وکلّ ما فی سلسلة السند من الرجال جزء لموضوعه.

2 ـ آیة النفر:

قوله تعالى: (وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ)(5) وقد وقع البحث عنها فی ثلاث مقامات: الأوّل: فی تفسیر الآیة، الثانی: فی کیفیة الاستدلال بها، الثالث: فی الإشکالات الواردة علیها والجواب عنها.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذکر فی تفسیرها وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن یکون المراد من النفر فیها الخروج إلى الجهاد غایة الأمر إنّها تنهى المؤمنین أن ینفروا إلى الجهاد کافّة وتأمرهم بالانقسام إلى طائفتین: فطائفة منهم تنفر إلى الجهاد، وطائفة اُخرى تبقى عند الرسول للتفقّه فی الدین.

والقائلون بهذا الوجه استشهدوا له بصدر الآیة وهو قوله تعالى: (وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً) فإنّه یدلّ على أنّهم کانوا ینفرون کافّة إلى الجهاد وذلک لکی لا تشملهم الآیات النازلة فی المنافقین القاعدین، فتنهیهم الآیة عن هذا النحو من الخروج وتقول: الجهاد مع الجهل واجب کالجهاد مع العدوّ.

وهذا الوجه مخالف لظاهر الآیة من بعض الجهات: أوّلا: أنّه یحتاج إلى تقدیر جملة «وتبقى طائفة» وثانیاً: لابدّ من رجوع الضمیر فی قوله «لیتفقّهوا» إلى الطائفة الباقیة مع أنّ الظاهر رجوعه إلى الفرقة النافرة المذکورة فی الآیة، وثالثاً: من ناحیة رجوع الضمیر فی «ولینذروا» إلى الطائفة الباقیة أیضاً مع أنّ ظاهره أیضاً الرجوع إلى النافرة.

الوجه الثانی: أن یکون المراد من النفر النفر إلى الجهاد أیضاً مع عدم التقدیر المذکور فی الوجه الأوّل، فیرجع الضمیران إلى الطائفة النافرة، أی التفقّه والإنذار یرجعان إلیهم، والله تعالى حثّهم على التفقه فی میدان الحرب لترجع إلى الفرقة المتخلّفة فتحذّرها.

إن قلت: کیف یمکن التفقّه فی میدان الجهاد.

قلت: یحصل التفقّه هناک بالتبصّر والتیقّن بما یریهم الله من الظهور على المشرکین ونصرة الدین وظهور صدق قوله تعالى: (کَمْ مِنْ فِئَة قَلِیلَة غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللهِ)(6) وکذلک قوله تعالى: (إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ)(7).

وهذا الوجه أیضاً مخالف للظاهر من وجهین:

الوجه الأوّل أنّه خلاف ظاهر التفقّه فی الدین وخلاف قوله: «لیتفقّهوا» بصیغة المضارع، فإنّه ظاهر فی الاستمرار لا فی التفقّه فی مقطع خاصّ وزمان معیّن (هو زمان الجهاد) کما أنّ کلمة الدین أیضاً ظاهرة فی جمّ غفیر من المسائل والمعارف الدینیّة لا فی خصوص صفة من صفات الباری تعالى کقدرته ونصرته.

الوجه الثانی: أنّه یبقى السؤال فی الآیة بعدُ من أنّه لماذا منع من نفر الجمیع للتفقّه فی الدین؟ لأنّ المفروض عدم وجود تقدیر فی الآیة، فالواجب على الجمیع النفر للتفقّه هناک.

الوجه الثالث: أن یکون المراد من النفر النفر إلى محضر الرسول (صلى الله علیه وآله) لتحصیل الدین، ومعنى الآیة: لا یجوز لمؤمنی البلاد أن یخرجوا کافّة من أوطانهم إلى المدینة للتفقّه للزوم اختلال النظام.

وهذا الوجه وإن یوجب التخلّص من إشکال التقدیر ولکن یرد علیه:

أوّلا: أنّ النهی عن شیء إنّما یصحّ فیما إذا کان الشخص فی معرض إرتکاب ذلک الشیء، وهو ممنوع فی مورد الآیة، لأنّا لا نرى من نفر جمیع المسلمین إلى محضر الرسول للتفقّه أثراً فی الأخبار والتاریخ.

ثانیاً: أنّه خلاف اتّحاد سیاق هذه الآیة مع الآیة السابقة واللاحقة لأنّ موردها هو الجهاد.

الوجه الرابع: أن تکون الآیة ناظرة إلى جماعة من الصحابة کانوا یتوجّهون من المدینة إلى القبائل لتبلیغ الأحکام والناس یهدون إلیهم هدایا وعطایا، وصار هذا الأمر سبباً لإتّهامهم بعدم الخلوص فی نیّاتهم فترکوا هذه الرسالة، فنزلت الآیة.

ویرد على هذا الوجه أیضاً أنّه لا یساعد صدر الآیة الظاهر فی أنّ جمیع المؤمنون کانوا یخرجون من المدینة، بینما المفروض فی هذا الوجه خروج جماعة منهم، هذا أوّلا.

وثانیاً: لازم هذا الوجه أن یکون النفر للتعلیم لا للتفقّه.

الوجه الخامس: أن نلتزم بالتفکیک بین النفر الأوّل وبین النفر الثانی، فیکون الأوّل بمعنى النفر إلى الجهاد، والثانی بمعنى النفر إلى التفقّه، فمعنى الآیة: أیّها المؤمنون لا یخرج جمیعکم إلى الجهاد بل تخرج طائفة إلیه وطائفة إلى التعلّم والتفقّه.

وفیه: أنّه خلاف وحدة السیاق فإنّها تقتضی أن یکون النفر فی الآیة بمعنى واحد.

فقد ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّه یلزم إرتکاب خلاف الظاهر على کلّ حال.

لکن الإنصاف أنّ أخفّها مؤونة وأقلّها محذوراً هو التفسیر الأوّل کما یؤیّده ما ورد فی ذیل الآیة من شأن النزول فإنّها وردت بعد نزول آیات الجهاد وذمّ المنافقین لأجل ترکهم الجهاد، فکان المؤمنون یخرجون إلى الجهاد جمیعاً لئلا یعمّهم ذمّ الآیات، فنزلت الآیة ونهت عن خروج الجمیع، هذا أوّلا.

ویؤیّده ثانیاً: ما رواه الشیخ الطبرسی (رحمه الله) فی مجمع البیان (وأسنده إلى الإمام الباقر (علیه السلام) مباشرةً وبقوله: «قال الباقر (علیه السلام)» مع أنّه ممّن لا یقول بحجّیة خبر الواحد) قال: قال الباقر (علیه السلام): «کان هذا حین کثر الناس فأمرهم الله سبحانه أن تنفر منهم طائفة وتقیم طائفة للتفقّه وأن یکون الغزو نوباً»(8).

فقد صرّحت هذه الرّوایة بما قدّرت فی الآیة بناءً على هذا التفسیر، أی قوله(علیه السلام): «وتقیم طائفة» وقد اختار هذا التفسیر کثیر من المفسّرین.

هذا کلّه بالنسبة إلى نفس الآیة مع قطع النظر عن الرّوایات الواردة فی ذیلها.

وهنا إشکال مهمّ ینشأ من روایات کثیرة تبلغ اثنتا عشرة روایة تشهد بأنّ النفر فی الآیة بمعنى النفر إلى التفقّه لا الجهاد، وأکثرها واردة فی مورد قوم أخبروا بموت إمامهم المعصوم فیسأل الراوی عن أنّهم کیف یصنعون؟ فیتلو الإمام فی الجواب هذه الآیة لبیان أنّ الوظیفة حینئذ هی الخروج فی الطلب والنفر إلى التفقّه فی معرفة الإمام اللاحق.

منها: ما رواه یعقوب بن شعیب عن أبی عبدالله (علیه السلام) قال: قلت: لیسوا إذا هلک الإمام فبلغ قوماً له بحضرته؟ قال: «یخرجون فی الطلب فإنّهم لا یزالون فی عذر ما داموا فی الطلب، قلت: یخرجون کلّهم أو یکفیهم أن یخرجوا بعضهم؟ قال إنّ الله عزّوجلّ یقول: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ)قال هؤلاء المقیمون فی السعة حتّى یرجع إلیهم أصحابهم»(9).

ومنها: ما رواه عبدالأعلى قال: قلت: لأبی عبدالله (علیه السلام) بلغنا وفاة الإمام؟ وقال: «علیکم النفر. قلت: جمیعاً؟ قال: إنّ الله یقول: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ) الآیة. قلت: نفرنا فمات بعضنا فی الطریق؟ قال فقال: (وَمَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ـ إلى قوله ـ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) قلت: فقدمنا المدینة فوجدنا صاحب هذا الأمر ... الخ»(10).

إلى غیر ذلک ممّا ورد فی هذا المعنى.

ویمکن الجواب عنه بأنّ استدلال الإمام (علیه السلام) فی هذه الرّوایات ربّما یکون بما یستنتج من الآیة وبملاک یستفاد منها، وهو أنّ تحصیل العلم والتفقّه فی الدین واجب کفائی (کما أنّ الجهاد واجب کفائی والنفر مقدّمة له) فالروایة تقول حینئذ: إذا کان التعلّم واجباً ووجب امتثال هذا الوجوب فلا فرق بین الإقامة والخروج لأجل تحقّق الامتثال، ولا یخفى أنّ هذا لا ینافی التفسیر الأوّل وکون النفر بمعنى النفر إلى الجهاد، هذا أوّلا.

وثانیاً: غایة ما تقتضیه هذه الرّوایات کونها قرینة على أنّ النفر فی الآیة استعمل فی النفر إلى الجهاد والنفر إلى التفقّه معاً، أی أنّه استعمل فی أکثر من معنى، وهو جائز على المختار عند وجود القرینة أو استعمل فی معنى جامع بینهما.

هذا کلّه فی تفسیر الآیة، أی المقام الأوّل من البحث، وستعرف إن شاء الله أنّ الاختلاف فی هذا المقام لیس له أثر کثیر فی ما نحن بصدده.

أمّا المقام الثانی: فهو فی کیفیة الاستدلال بهذه الآیة لحجّیة خبر الواحد...

فنقول: الاستدلال بها یکون منّا یقوم على أساس دلالة قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ)على وجوب الحذر عند إنذار المتفقّه فی الدین مطلقاً سواء حصل منه العلم أو لا، وهو معنى حجّیة خبر الواحد تعبّداً.

وأمّا کیفیة دلالة کلمة «لعلّ» على الوجوب فهی من وجوه شتّى:

الوجه الأول: أن یقال: إنّ کلمة «لعلّ» وإن کانت مستعملة فی معناها الحقیقی، وهو إنشاء الترجّی حتّى فیما إذا وقعت فی کلامه تعالى، ولکن بما أن الداعی إلى الترجّی یستحیل فی حقّه تعالى لأنّ منشأه عبارة عن الجهل والعجز فلا محالة تکون مستعملة بداعی طلب الحذر، وإذا ثبت کون الحذر مطلوباً ثبت وجوبه لأنّه لا معنى لحسن الحذر ورجحانه بدون وجوبه، فإنّ المقتضی للحذر إن کان موجوداً فقد وجب الحذر وإلاّ فلا یحسن من أصله.

أقول: إنّ هذا الوجه تامّ إلاّ من ناحیة ما ذکر فی مقدّمته من استحالة الترجّی فی حقّه تعالى لأنّ المأخوذ فی مادّة الترجّی هو الحاجة إلى شرائط غیر حاصلة، وعدم حصول الشرائط تارةً یکون من جانب المتکلّم وهو الله تعالى فی الآیة، واُخرى من ناحیة المخاطب وهو الناس فیها، ففی ما نحن فیه وإن کانت الشرائط حاصلة من جانبه تعالى إلاّ أنّها غیر حاصلة من جانب الناس، فاستعملت «لعلّ» فی معناها الحقیقی.

وعلى کلّ حال یستفاد من کلمة «لعلّ» فی الآیة مطلوبیّة الحذر (وهی مساوقة مع الوجوب) سواء کانت مستعملة فی معناها الحقیقی أو فی معناها المجازی.

الوجه الثانی: أنّ الحذر جعل غایة للإنذار الواجب (لظهور الأمر بالإنذار فی قوله تعالى (وَلِیُنذِرُوا) فی الوجوب) وغایة الواجب إذا کانت من الأفعال الاختیاریّة واجبة کما أنّ مقدّمة الواجب واجبة لوجوب الملازمة بینهما.

الوجه الثالث: أنّ وجوب الإنذار والتفقّه مع عدم وجوب الحذر یستلزم اللغو.

الوجه الرابع: الإجماع المرکّب، فإنّ الاُمّة بین من لا یقول بحجّیة خبر الواحد أصلا، وبین من یقول بوجوب العمل به، فالقول برجحان العمل به دون وجوبه قول بالفصل.

أقول: لا إشکال فی بطلان بعض هذه الوجوه أو کونها قابلة للمناقشة، وهو الوجه الثالث والرابع، أمّا الرابع فلعدم حجّیة الإجماع البسیط فی مثل المقام الذی یکون ـ على الأقل ـ محتمل المدرک فضلا عن الإجماع المرکّب.

وأمّا الوجه الثالث: فلعدم لزوم اللغویّة لإمکان أن یکون وجوب الإنذار لغایة حصول العلم، ویکفی، فی نفی اللغویة ترتّب الأثر فی الجملة فیبقى الوجه الأوّل والثانی، ولا بأس بهما.

لکن یرد على الاستدلال بهذه الآیة إشکالات عدیدة لا یتمّ الاستدلال بها من دون دفعها:

الأوّل: أنّ الآیة وردت فی مقام بیان وظیفة المتفقّهین النافرین لا وظیفة قومهم بعد الرجوع إلیهم.

ویمکن الذبّ عنه مضافاً إلى عدم وروده على الوجه الثانی من الوجوه المذکورة فی تفسیرها (لأنّ غایة الواجب واجبة على الباقین) بأنّ ظاهر الآیة أنّها فی مقام بیان وظیفة کلتا الطائفتین طائفة المنذرین بالکسر وطائفة المنذرین بالفتح، فتطلب من الاُولى الإنذار لظهور الأمر (ولینذروا) فی الوجوب ومن الثانیة القبول لما مرّفی الوجه الأوّل من دلالة کلمة «لعلّ» على معنى الطلب.

الثانی: أنّ الظاهر من الآیة هو حجّیة قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّدیه، لأنّ التفقّه والإنذار بما تفقّه من وظیفة المجتهد لا الناقل للروایة، لأنّ وظیفة الناقل النقل والإخبار لا تعیین تکلیف المخبر به، فلا ربط للآیة بحجّیة خبر الواحد الذی هو محلّ الکلام.

إن قلت: کیف، مع أنّه لم یکن للفقه والاجتهاد بالمعنى المصطلح فی عصر الأئمّة عین ولا أثر؟

قلنا: لا إشکال فی وجود هذا المعنى فی ذلک الزمان على حدّه البسیط وفی دائرة تخصیص العام وتقیید المطلق وتقدیم النصّ على الظاهر وشبه ذلک، والإنصاف أنّ مفاد الآیة لیس على حدّ الاجتهاد المصطلح ولا على حدّ البیان الساذج للخبر، بل المستفاد منها عرفاً کون الناقلین للأخبار من قبیل ناقلی فتاوی المجتهدین والمنصوبین من قبلهم لنقل المسائل العملیّة وتوضیحها لمقلّدیهم فی یومنا هذا، ولا إشکال فی قابلیتهم للإنذار ولا إشکال أیضاً فی تحقّق الإنذار بتوسّطهم أی یتحقّق الإنذار بمجرّد نقل الرواة عن الأئمّة (علیهم السلام) ولا یشترط فیه التفقّه بالمعنى المصطلح کما لا یشترط فی وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بلا ریب.

الثالث: أنّ المأخوذ فی التفقّه والإنذار فی الآیة عنوان الطائفة، وهی عبارة عن الجماعة وإخبار الجماعة یوجب العلم، فتکون الآیة خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه واضح، لأنّ المقصود من الطائفة هو معناها الحقیقی نظیر المراد فی قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ) وفی قولک: «سل العلماء ما جهلت» وقولک: «راجع الأطباء فی مرضک» وقوله تعالى: (وَلاَ تُطِیعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِینَ)وقوله تعالى: (وَلاَ تَرْکَنُوا إِلَى الَّذِینَ ظَلَمُوا) ونظیرها ممّا لا شکّ فی أنّ المخاطب فیه کلّ واحد من الأفراد والمصادیق مستقلا لا الجماعة بما هی جماعة.

الرابع: أنّ الآیة ناظرة إلى اُصول الدین وتحصیل المعارف الدینیّة بقرینة الرّوایات التی وردت فی ذیلها الدالّة على وظیفة المؤمنین فی تعیین الإمام اللاحق بعد وفاة الإمام السابق، وقد مرّ بعضها فی البحث عن المقام الأوّل، ولا إشکال فی اعتبار حصول العلم فی الاُصول، فتکون الآیة خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه: أنّ الآیة عامّة تعمّ الفروع أیضاً لأنّه لا وجه لتخصیصها بالاُصول، أمّا الرّوایات فإنّها غایة ما تثبته أنّ اُصول الدین مشمولة للآیة ولا تدلّ على انحصارها بها.

3 ـ آیة الکتمان

وهی قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتَابِ أُوْلَئِکَ یَلْعَنُهُمْ اللهُ وَیَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)(11)، وقوله: (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ الْکِتَابِ وَیَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِیلا أُوْلَئِکَ مَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ...)(12).

وتقریب الاستدلال بهما: أنّ حرمة الکتمان ووجوب الإظهار یلازم وجوب القبول وألاّ یکون لغواً.

نعم إنّه تامّ بالنسبة إلى الآیة الاُولى، لأنّ الموضوع فیها هو مجرّد الکتمان، وأمّا الآیة الثانیة فیمکن الإشکال فیها بأنّ مجرّد الکتمان فیها لیس موضوعاً للحرمة بل أخذ فی الموضوع أنّهم یشترون بکتمان الحقّ ثمناً قلیلا، فالصالح للاستدلال هو الآیة الاُولى فقط.

وإستشکل فیها أوّلا: بأنّها واردة فی اُصول العقائد کما یشهد به شأن نزولهما.

واُجیب عنه: بأنّها مطلقة تعمّ الفروع والاُصول معاً لأنّ الآیة تشمل ما إذا کتم فقیه حرمة الربا مثلا بالوجدان، ولا دخل لخصوصیّة المورد لأنّ المورد لیس مخصّصاً.

وثانیاً: أنّه من الممکن أن تکون فائدة حرمة الکتمان ووجوب الإظهار هو حصول العلم من قولهم لأجل تعدّدهم لا العمل بقولهم وإن لم یحصل العلم من إخبارهم.

وإن شئت قلت: إنّا فهمنا وجوب القبول من برهان اللغویّة لا من اللفظ حتّى یدّعی الإطلاق بالنسبة إلى مورد عدم حصول العلم.

4 - آیة أهل الذکر

وهی قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)وقد وردت فی موضعین من الکتاب الکریم: أحدهما: سورة النحل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(13)، والثانی: سورة الأنبیاء: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(14)، (والفرق بین الآیتین منحصر فی کلمة «من» فإنّها وردت فی الاُولى لا الثانیة).

وهاتان الآیتان بشهادة صدرهما نزلتا فی من کانوا یعترضون على النبی(صلى الله علیه وآله)بأنّه لِمَ خلق بشراً أو لا یکون معه ملک، فأجابتا عن هذا الإشکال بأنّ هذا لیس أمراً جدیداً بل کان الأمر کذلک فی الأنبیاء السلف، وإن أردتم شاهداً على هذا فاسألوا أهل الذکر، فمورد الآیة مسألة من مسائل أصل النبوّة (الذی هو من جملة اُصول الدین) وهی أنّه هل یمکن أن یکون النبی (صلى الله علیه وآله) بشراً أو لا؟

والاستدلال بهذه الآیة لحجّیة خبر الواحد یرجع أیضاً إلى برهان اللغویّة، وتقریبه: أنّ ظاهر الأمر بالسؤال هو وجوبه، ووجوبه ملازم لوجوب القبول، وإلاّ یکون وجوب السؤال لغواً، وإطلاقه یشمل السؤال الذی یحصل من جوابه العلم وما یحصل من جوابه الظنّ، أی یجب القبول سواء حصل العلم أم لا؟

ولکن یرد علیه:

أوّلا: ما أورده کثیر من الأعلام وهو أنّه یمکن أن تکون فائدة وجوب السؤال هی حصول العلم بالسؤال فیخرج عن اللغویّة.

ویمکن دفع هذا الإشکال بإطلاق وجوب السؤال، لأنّ لازمه إطلاق وجوب القبول.

وثانیاً: أنّ مفادها أخصّ من المدّعى، لأنّها تدلّ على وجوب القبول فی خصوص مورد السؤال، بینما محلّ النزاع مطلق أخبار الثقة سواء کان فی قبال سؤال أم لم یکن.

والجواب عنه واضح وهو أنّ الفهم العرفی یوجب إلغاء الخصوصیّة عن مورد السؤال.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى «أهل الذکر» ظاهر فی أهل الخبرة، فیدلّ على حجّیة قول أهل الخبرة لوجود تفاسیر مختلفة لأهل الذکر فی کلمات المفسّرین فبعضهم فسّره بالقرآن لأنّ من أسامی القرآن الذکر کما ورد فی قوله تعالى: (وَهَذَا ذِکْرٌ مُبَارَکٌ أَنزَلْنَاهُ)(15) وبعضهم فسّره بأهل الکتاب من علماء الیهود والنصارى، والمقصود من السؤال منهم حینئذ هو السؤال عن علائم النبوّة الموجودة فی التوراة والإنجیل، وثالث فسّره بأهل العلم بأخبار الماضین، ورابع فسّره بالأئمّة صلوات الله علیهم لأنّ من أسامی الرسول أیضاً الذکر کما ورد فی قوله تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَیْکُمْ ذِکْراً رَسُولا)(16) وقد أُیّد هذا التفسیر بروایات وردت فی هذا المعنى.

لکن الصحیح أنّ المراد منه أهل العلم عامّة وأنّ کلّ واحد من هذه الاحتمالات بیان لمصداق من المصادیق وتفسیر للآیة بالمصداق کما هو المتداول فی کثیر من کتب التفسیر وکذا الرّوایات، وذلک باعتبار أنّ الذکر فی اللغة بمعنى العلم مطلقاً ومن دون تقیّد وخصوصیّة، ویشهد علیه ملاحظة موارد استعمال هذه المادّة ومشتقّاتها فی القرآن الکریم کقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ)فیکون المراد من کلمة «الأهل» کلّ من کان عالماً وخبیراً فی موضوع من الموضوعات ومسألة من المسائل، ولا وجه لتخصیصه بمصداق دون مصداق.

وعلیه یکون الاستدلال بهذه الآیة فی باب التقلید أولى ممّا نحن فیه.

لکن المحقّق الخراسانی (رحمه الله) حاول الجواب عن هذا الإشکال بأنّ مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وغیرهما من أجلاّء الرواة کانوا من أهل العلم، فیجب قبول روایتهم، وإذا وجب قبول روایتهم وجب قبول روایة من لیس من أهل العلم بالإجماع المرکّب.

والإنصاف أنّه غیر تامّ، لأنّ المستفاد من الآیة وجوب السؤال عن مثل زرارة وقبول روایته من حیث إنّه من أهل العلم والخبرویة لا بما أنّه راو وناقل للروایة حتّى یتعدّى عنه إلى سائر الرواة.

وإن شئت قلت: هو دلیل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وإمضاء لبناء العقلاء فی هذا الأمر، وأمّا الإجماع المرکّب فلا إشکال فی عدم حجّیته فی مثل هذه المسألة.

ورابعاً: أنّ الآیة وردت فی اُصول العقائد ولا کلام فی عدم حجّیة خبر الواحد فیها.

ویمکن الجواب عن هذا أیضاً بأنّ الآیة مطلقة تشمل الاُصول والفروع، غایة الأمر لابدّ فی الاُصول من إضافة قید من الخارج وهو اعتبار حصول العلم.

فقد ظهر أنّ جمیع ما اُورد على الاستدلال بهذه الآیة مدفوعة إلاّ الإشکال الثالث، وهو أنّها واردة فی حجّیة قول أهل الخبرة، ولهذا استدلّ کثیر من العلماء بها فی باب الاجتهاد والتقلید بل هی من أهمّ أدلّة ذلک الباب.

هذا کلّه فی الإستلال لحجّیة خبر الواحد بالکتاب، وهو الدلیل الأوّل.


1. سورة الحجرات: الآیة6.
2. مجمع البیان: ج 9، ص 132.
3. راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 172.
4. راجع فوائد الأصول، ج 2، ص 385 ـ 386، طبع جماعة المدرّسین.
5. سورة التوبة: الآیة122.
6. سورة البقرة: الآیة249.
7. سورة الأنفال: الآیة65.
8. مجمع البیان: ج 3، ص 83.
9. البرهان: ج 2، ص 172.
10. المصدر السابق: ص 173.
11. سورة البقرة: الآیة159.
12. سورة البقرة: الآیة174.
13. سورة النحل: الآیة43.
14. سورة الأنبیاء: الآیة7.
15. سورة الأنبیاء: الآیة50.
16. سورة الطلاق: الآیة10 ـ 11.

 

أدلّة القائلین بحجّیة خبر الواحدالدلیل الثانی: السنّة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma