لا إشکال فی وجود الواجب الکفائی فی العرف والشرع، ففی لسان الشرع نظیر وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وتجهیز المیّت، وفی العرف نظیر ما إذا أمر المولى عبیده بقوله: «لیفتح أحدکم الباب».
وقد اختلفوا فی کیفیّة تصویره ولابدّ فی تحقیق ذلک من تبیین أقسام المصالح الّتی تترتّب على الأشیاء خارجاً:
فقسم منها لا تحصل إلاّ باجتماع جماعة، کحمل جسم ثقیل مثلا من مکان إلى مکان آخر.
وقسم منها تکون المصالح فیه متعدّدة یحصل کلّ واحدة منها بید فرد واحد من الأفراد سواء کانت المصالح متّحدة فی النوع أو مختلفة کالصلاة، وکالعلوم الّتی تحتاج إلیها نظام الاُمّة.
وقسم ثالث منها تکون المصلحة فیه واحدة ویکفی فی تحصیله قیام فرد واحد کفتح الباب مثلا.
ولا إشکال فی أنّ الوجوب یکون على نهج العامّ المجموعی فی القسم الأوّل، وعلى نهج العامّ الأفرادی فی القسم الثانی مع کونه وجوباً عینیاً فی کلیهما، کما لا إشکال فی کون الوجوب فی القسم الثالث کفائیاً وأنّ متعلّقه إنّما هو عنوان أحد المکلّفین مشیراً إلى الخارج.
وبعبارة اُخرى: یکون متعلّق الوجوب فیه صدور الفعل من صرف وجود المکلّف ـ کما فی الواجب التخییری; حیث إنّ متعلّق الوجوب فیه أیضاً کان صرف وجود الطبیعة المأمور بها ـ بینما کان المتعلّق فی القسمین الأوّلین صدور الفعل من مطلق وجود المکلّف، ولیس متعلّق الوجوب فی الواجب الکفائی جمیع المکلّفین على نحو من الوجوب غیر الوجوب العینی; لأنّ الوجوب عبارة عن البعث إنشاءً کالبعث التکوینی ویکون له سنخ واحد، ولا یعقل أن یکون له أنحاء مختلفة.
والقرائن الموجودة فی الواجبات الکفائیة الواردة فی لسان الشارع ومناسبات الحکم والموضوع فیها ترشدنا إلى أنّ المکلّف فیها لیس جمیع المکلّفین، بل إنّما هو عنوان أحد المکلّفین أو طائفة منهم، نظیر ما ورد فی قوله تعالى: (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا)(1)، فإنّ مقتضى مناسبة الحکم والموضوع أنّ متعلّق خطاب «فاقطعوا» بعض المکلّفین لا جمیعهم، کما أنّ مقتضى کلمة «اُمّة» فی قوله تعالى: (وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْکَرِ)(2)أیضاً ذلک، فإنّ کلمة «اُمّة» بضمّ «من» التبعیضیة قرینة حتمیة على أنّ المتعلّق فیها لیس جمیع المکلّفین، بل المتعلّق إنّما هو عنوان بعض المکلّفین المشیر إلى الخارج.
ومثله قوله تعالى: (وَلْیَشْهَدْ عَذابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِینَ)(3).

بقی هنا اُمور:
الأوّل: إنّ العقاب فی ترک الواجب الکفائی واحد ولکنّه یوزّع على جمیع المکلّفین الذین حضروا الواجب، وذلک لأنّ غرض المولى یکون واحداً، أی المصلحة الّتی تترتّب على العمل واحد، وحیث إنّ متعلّق الخطاب کان عنوان بعض المکلّفین یعدّ کلّ واحد منهم مصداقاً لهذا العنوان فاللازم توزیع العقاب على جمیعهم، عند تخلّف الجمیع.
الثانی: قد یصیر الواجب الکفائی عینیاً کما أنّ الواجب التخییری أیضاً قد یصیر تعیینیاً، وهو فیما إذا لم یقم للواجب الکفائی قدر الکفایة کما إذا لم یقم لتحصیل العلوم الدینیّة من به الکفایة، وفی الواجب التخییری ما إذا لم یمکن إتیان أحد الطرفین کتحریر الرقبة فی زماننا هذا مثلا، فیصیر الطرف الآخر واجباً تعیینیاً.
الثالث: کما أنّ التخییر بین الأقلّ والأکثر فی الواجب التخییری لا یکون معقولا فیما إذا أتى المکلّف بالأکثر تدریجاً کذلک لا یعقل فی الواجب الکفائی، نظیر ما إذا خاطب المولى عبیده بقوله: «یجب أن یفعل العمل الفلانی عشرة منکم أو عشرون»
فإن أتى العشرون بالعمل دفعةً فلا إشکال فی أنّ جمیعهم ممتثلون للتکلیف وإن أتوا به تدریجاً فبعد إتیان العشرة یتحقّق المطلوب، ویکون إتیان الأکثر تحصیلا للحاصل کما مرّ بیانه فی الواجب التخییری.

1 . سورة المائدة، الآیة 38.
2 . سورة آل عمران، الآیة 104.
3 . سورة النور، الآیة 2.