واستدلّ منه بالآیات الناهیّة عن العمل بالظنّ، وهی قوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً)(1)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً)(2)، وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ)(3).
ویرد علیه: أنّه بعد التأمّل فی الآیات السابقة على هذه الآیات واللاحقة لها نرى أنّها تدلّ على أنّ المراد بالظنّ فی هذه الآیات لیس معناه المصطلح عند الفقهاء والاُصولیین، وهو الاعتقاد الراجح، بل المراد منه معناه اللغوی الذی یعمّ الوهم والاحتمال الضعیف أیضاً.
ففی مقاییس اللغة: «الظنّ یدلّ على معنیین مختلفین: یقین وشکّ» واستشهد لمعنى الیقین بقوله تعالى: (الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ)(4) حیث إنّ معنى «یظنّون» فیه «یوقنون» وقال بالنسبة إلى معنى الشکّ ما إلیک نصّه: «والأصل الآخر: الشکّ، یقال ظننت الشیء إذا لم تتیقّنه»(5).
وفی المفردات: «الظنّ اسم لما یحصل عن أمارة ومتى قویت أدّت إلى العلم ومتى ضعفت جدّاً لم یتجاوز حدّ التوهّم»(6).
وبالجملة أنّ الظنّ الوارد فی هذه الآیات إنّما هو بمعنى الأوهام الّتی لا أساس لها ولا اعتبار بها عند العقلاء.
أمّا الآیة الاُولى: فلأنّ الوارد قبلها هو: (إنَّ الذِینَ لا یُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ یُسَمُّونَ المَلائِکِةَ تَسْمِیَةَ الاُنْثَى)(7) فالتعبیر بـ «تسمیة الاُنثى» إشارة إلى ما جاء فی بعض الآیات السابقة: (إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَان إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى)(8) من أنّ هذه الأسماء أسماء لا مسمّى لها، ولا تتعدّى عن حدّ التسمیة ولا واقعیّة لها وهی ممّا لا یتفوّه بها من له علم وعقل، بل هو أمر ناش عن الوهم والخرافة وما تهوى الأنفس.
فالمراد بالظنّ فی الآیة هو هذا المعنى الذی لیس له مبنى ولا أساس کسائر الخرافات الموجودة بین الجهّال، وحینئذ تکون أجنبیة عمّا نحن فیه وهو الظنّ الذی یکون أمراً معقولا وموجّهاً ومطابقاً للواقع غالباً والذی یکون مبنى حرکة العقلاء فی أعمالهم الیومیّة کباب شهادة الشهود فی باب القضاء وباب أهل الخبرة وباب ظواهر الألفاظ ونحوها ممّا یوجب إسقاط العمل به من حیاة الإنسان ولزوم العمل بالیقین القطعی فقط اختلال النظام والهرج والمرج.
وأمّا الآیة الثانیة: فالآیات السابقة علیها: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَکَائِکُمْ مَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ ...»(9)تشهد بأنّ الظنّ الوارد فیها إشارة إلى الذین یعدّونهم بأوهامهم شرکاء للّه تعالى، کما یشهد بهذا قوله تعالى فی نفس السورة: (أَلاَ إِنَّ للّه مَنْ فِی السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِی الاَْرْضِ وَمَا یَتَّبِعُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله شُرَکَاءَ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ)(10)، فقد جعل الظنّ فی هذه الآیة فی عداد الخرص فی أمر الشرکاء، فالممنوع الظنّ الذی یعادل ما تهوى الأنفس والخرص; أی التخمین.
هذا کلّه بالإضافة إلى ما استعمل فیه کلمة الظنّ.
أمّا قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(11)، الذی نهى فیه عن اتّباع غیر العلم، فإنّه وإن کان لا یجری فیه ما ذکرناه فی الآیتین السابقتین، لکن یمکن القول فیه بالتخصیص فإنّها لیست آبیة عنه بخلاف الآیتین السابقتین(12).